توقيت القاهرة المحلي 19:11:28 آخر تحديث
  مصر اليوم -

العلاقات المدنية العسكرية (2-2)

  مصر اليوم -

العلاقات المدنية العسكرية 22

عمار علي حسن

ولا يعنى الانحياز للحكم المدنى، الذى تثبت الأيام ضرورته، ورفض عسكرة المجال العام، نسيان أن الجيش، وقوامه الرئيسى من المجندين المدنيين، هو أحد أعمدة الدولة الحديثة فى مصر. فليس من قبيل المجاملة ولا المبالغة أن نقول إن محمد على بنى الدولة فى ركاب الجيش، إذ أدت احتياجات الأخير إلى قيام الرجل ببناء مؤسسات قامت على أكتافها الدولة الحديثة، فلكى يعالج الضباط والجنود بنى المستشفيات، وكى يعلمهم بنى المدارس، وكى يوفر لهم الغذاء والكساء، اهتم بالزراعة والصناعة.

وما فعله محمد على لم يكن جديداً على المجتمع المصرى فى تاريخه المديد، إذ إن الجيش منذ أيام الفراعنة قد لعب هذا الدور، ابتداء من تحرير مصر من الغزاة الساميين ثم توحيدها على يد «مينا»، وبعدها الحفاظ على تماسكها، وصناعة إمبراطورية مصرية صغيرة فى أيام القوة، كانت تمتد لتطوق بلاد الشام وتصل إلى قرب منابع النيل أو تذهب غرباً نحو برقة وطبرق أو فى الجنوب الشرقى تجاه الحجاز وعدن.

لهذا السبب لا يمكن من الناحية الموضوعية نكران هذا الدور التاريخى للقوات المسلحة فى الحفاظ على الدولة المصرية، لا سيما بعد أن أخذ الجيش طريقه إلى التمصير عقب ثورة 1919، الذى اكتمل تماماً بقيام ثورة يوليو 1952، التى تنص الدساتير التى أعقبتها، وحتى الآن، على أن «الجيش ملك الشعب» وتجعل «التجنيد إجبارياً» ليظل القوام الرئيسى للقوات المسلحة من المجندين المدنيين، ويظل جزء كبير من رجال مصر على قوته النظامية أو الاحتياطية، فضلاً عن أن ضباط الجيش وصف الضباط العاملين ينتمون إلى مختلف الطبقات والجهات والشرائح الاجتماعية، بما جعل الجيش متداخلاً فى الحياة الاجتماعية، أو جزءاً من النسيج الاجتماعى، على النقيض من جيوش بلدان أخرى لا سيما فى قرون مضت حيث كانوا إما مرتزقة أو مجموعات منفصلة تماماً فى طبقة مختلفة عن طبقات المجتمع. كما أن الجيش المصرى هو جيش الكل، وليس جيش طائقة ولا قبيلة مثلما هو قائم فى بعض البلدان، ولذا فإن ولاءه الأساسى للناس، وميله إليهم، ولا يستطيع أن يفعل غير هذا، لأن القيمة المركزية لديه هى «التماسك» ولو انحاز إلى السلطة ضد الشعب سيفقد هذه القيمة ويتفكك، ومن ثم لم يكن أمامه من خيار سوى الانحياز لإرادة الشعب فى ثورتى «يناير» و«يونيو».

وقد كتب كثيرون فى تحليل هذه المسألة أبحاثاً ودراسات عميقة سواء فى «علم التاريخ» أو «علم الاجتماع العسكرى» وبعض الأبحاث الخاصة بالنظم السياسية والأمن القومى والدراسات العسكرية، لعل أنصعها تلك التى كتبها المفكر المرموق د. أنور عبدالملك، والتى تمثل مرجعية مهمة فى هذا الموضوع. وكثير ممن ينتقدون توغل الجيش فى الحياة السياسية لا ينكرون هذا ولا يجهلونه، إنما يبدون حرصهم على عدم تعريض الجيش لألاعيب السياسة وتقلباتها، لما يمثله هذا من خطر داهم على البلاد، كما ينظر هؤلاء بروية وعمق إلى اختلاف الحياة المدنية عن الحياة العسكرية، فالأخيرة لها نظامها وقواعدها وتراتبها وطبيعة تفاعلاتها ومهامها المغايرة فى جوانب عديدة عن الحياة المدنية، كما أن التطور الديمقراطى فى العالم كله يميل إلى انتقال السلطة تدريجياً من عسكريين إلى مدنيين، وإن كان هذا لا يمنع عسكريين من تولى مناصب مدنية طبقاً لقواعدها، أو فى الوظائف التى تحتاج إلى خبراتهم، على أن تحدد هذا الاحتياجات المدنية، وليست سياسة المواءمات أو الترضيات، ومن دون أى استثناءات. وهناك مسألة تتعلق بميزانية الدفاع وطريقة إخضاعها لرقابة البرلمان أو جهة منبثقة عنه، وقراءتها كرقم واحد أو بالتفصيل، من دون إخلال بسريتها. وأعتقد أن هذا الأمر لا يزال يثير جدلاً لدى نخب سياسية وفكرية، ولا بد من إيجاد حل معقول ومناسب لإنهائه.

لكن الأخطر من هذا هو «عسكرة الجهاز الإدارى للدولة» رغم أنه جهاز مدنى، ولا يعود ذلك إلى رغبة الجيش أو إملاءاته، إنما هو اختيار طوعى انبثق عن اللوائح والقوانين والتشريعات التى تحكم عمل المؤسسات البيروقراطية أو شركات القطاعين العام والحكومى، والتى جعلت رئيس مجلس الإدارة يتصرف فى المؤسسة وكأنها وحدة عسكرية، فى إصدار القرارات، بل يتعداها إلى أن تكون «عزبة خاصة» كما يشاع فى الأدبيات الصحفية المصرية، فالوحدة العسكرية لها قواعد وتحكمها قوانين وتسودها حياة صارمة، لأن طبيعة مهمتها تتطلب هذا، أما انتقال هذه الروح إلى المؤسسات المدنية ليس فى الصرامة والتحكم الإيجابى إنما فى التحجر والجمود والتمسك الهائل بالفساد والفرز العسكرى للكفاءات، فهو لا شك مشكلة عميقة تحتاج إلى حل.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

العلاقات المدنية العسكرية 22 العلاقات المدنية العسكرية 22



GMT 10:03 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

مش معقول.. ستة دنانير فطور صحن الحمص!

GMT 09:32 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

«آخر الكلام»

GMT 09:31 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

إنَّما المَرءُ حديثٌ بعدَه

GMT 09:30 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

وقف النار في الجنوب اللبناني وما بعد!

GMT 09:29 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

سفينة العراق والبحث عن جبل الجودي

GMT 09:27 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

روسيا: المفاجأة الكبرى أمام ترمب

GMT 09:26 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

ثلث نساء العالم ضحايا عنف

GMT 09:24 2024 الجمعة ,22 تشرين الثاني / نوفمبر

أوكرانيا...اليوم التالي بعد الألف

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:22 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
  مصر اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 09:31 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
  مصر اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 08:47 2020 الثلاثاء ,11 شباط / فبراير

ميسي وصيفا لـ محمد صلاح تسويقيا

GMT 16:55 2019 الأربعاء ,06 تشرين الثاني / نوفمبر

السويد تعتقل عراقيا اتهمته بالتجسس لصالح إيران

GMT 06:05 2020 السبت ,03 تشرين الأول / أكتوبر

تعرّف على الفوائد الصحيّة لفيتامين "ك" ومصادره الطبيعية

GMT 05:39 2020 الخميس ,06 آب / أغسطس

حقيقة إصابة خالد الغندور بفيروس كورونا

GMT 07:44 2020 الثلاثاء ,16 حزيران / يونيو

سيفاس يفوز على دينيزليسبور بصعوبة في الدوري التركي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon