عمار علي حسن
ولم يخرج البيزنطيون على هذا التقليد، فجعلوا غالبية جيوشهم من المرتزقة، إلى درجة أن الجيش الذى قاده بليزاريوس لقتال الوندال سنة 532 م كان ينتمى إلى أمم عدة. وتصاعد اعتماد البيزنطيين على المرتزقة إلى درجة أن صارت الفيالق الرئيسية فى جيش إمبراطورهم جوستنيان من البربر، بما فى ذلك الفيلقان المسئولان عن حماية الإمبراطور نفسه.
وحتى بعد أن وضعت الحروب أوزارها وعمّ السلم أوروبا سنوات طويلة لم يعان المرتزقة من البطالة، إذ استأجرهم بعض القادة والساسة، وشكلوا منهم جيوشاً، استعملوها فى السطو والسلب والنهب وبث الرعب فى نفوس الرعية. وكان فى مقدمة هؤلاء الساسة جيسكار، أحد أفراد أسرة البارون، الذى قاد جيشاً كبيراً من المرتزقة، قام بقطع الطرق، وفرض الإتاوات وسرقة الأهالى. وقد بلغ هذا الجيش قوة وتمكناً حدت بمؤسسه إلى أن يطالب البابا جريجورى الرابع سنة 1059 بأن ينصبه ملكاً على إيطاليا. وبلغ الأمر أوجه بتكوين وليام الفاتح جيشاً كاملاً من المرتزقة ينتمون إلى الفرنسيين والإيطاليين والنورمانديين وغيرهم ليغزو به إنجلترا.
وتوحش المرتزقة فى أوروبا إلى درجة أن فكّر الحكام فى عملية حربية كبيرة وواسعة تساعد فى التخلص منهم، فكان قرار شن حرب «الفرنجة» التى يطلق عليها الغرب «الحروب الصليبية» والتى صادف غريزة المرتزقة النهمة إلى حصد الغنائم. وتعاونت الكنيسة مع هؤلاء الجند المأجورين على أوسع نطاق، حتى إن الحملة «الصليبية» الثانية وما بعدها اعتمدت أساساً على المرتزقة وبعض الرهبان. فلما أخفقت هذه الحملات الاستعمارية عادت أوروبا إلى سابق عهدها من المعاناة لتزايد سطوة المرتزقة، لا سيما أن بعض الملوك استعملوهم فى قهر شعوبهم، وفرض الأمن، وقمع المعارضين للسلطة، والمتذمرين منها.
وقد أنعشت الحروب الطويلة التى نشبت بين المختلفين فى المذاهب الدينية حركة المرتزقة بأوروبا، وجعلت من وجودهم أمراً طبيعياً، حتى بات الفرد منهم يحمل لقب «جندى». وتبوأت سويسرا الموقع الذى كان يحوزه الإغريق فى تصدير المرتزقة، نظراً لما أظهره المحاربون السويسريون من قدرة قتالية فائقة، بعد إخضاعهم لتدريبات عسكرية مكثفة تحت رعاية مقاتلين محترفين، حتى باتوا يعرفون بـ«مروّضى وقاهرى الملوك». لكن الارتزاق امتد أيضاً إلى كل من هولندا وألمانيا وإنجلترا نفسها، ليصبح المرتزقة علامة مميزة فى كل الحروب الأهلية والإقليمية.
وقد جلب لويس الحادى عشر ملك فرنسا أعداداً غفيرة من المرتزقة السويسريين، ووقّع مع المقاطعات السويسرية اتفاقية عام 1474 جعلت لفرنسا دون غيرها الحق فى استخدام المحاربين فى صفوف القوات البرية الفرنسية مقابل رواتب مجزية تدفعها الخزينة الملكية. وظلت هذه الاتفاقية سارية المفعول حتى عهد لويس الثانى عشر 1509، حتى خرقها البابا يوليوس الثانى، وجنّد ستة آلاف سويسرى فى «الحلف المقدس» الذى تزعّمه لطرد الفرنسيين من إيطاليا. وتمكن المرتزقة من حسم معركة نافورا عام 1513 لصالح رابطة مالين التى كوّنها البابا ليو العاشر والإمبراطور ماكسيميليان فرديناند ملك إسبانيا ضد الحملة التى قادها ملك فرنسا فرانسوا الأول على إيطاليا. ولعبوا أيضاً دوراً سلبياً فى هزيمة الجيش الفرنسى فى معركة بيكوك عام 1522 عندما غضب المرتزقة المنضمون إلى صفوفه من قرار قائده لوتريك بإخلاء مدينة ميلانو تحت ضغط هجمات الإيطاليين، فتمردوا عليه مطالبين بدفع أجورهم أو تسريحهم أو الدخول فى المعركة للحصول على الغنائم.
واستعمل نابليون بونابرت المرتزقة فى حروبه التوسعية، وشكلوا أكثر من نصف جيشه الذى حاول غزو روسيا عام 1812. وحين قامت الجمهورية الفرنسية الثالثة عام 1848 راحت تزيد من اعتمادها على العناصر الأجنبية ورجال المستعمرات فى تشكيل جيشها الذى بات لهذا يضم جنوداً من بلاد المغرب العربى والهند الصينية وفيتنام وأفريقيا جنوب الصحراء، يتلقون رواتب شهرية، ويحصلون على مزايا وعطايا مقابل اشتراكهم فى القتال من أجل مجد الإمبراطورية الفرنسية ومصالحها.
(ونكمل غداً إن شاء الله تعالى).