بقلم عمار علي حسن
فى المقالات السابقة تناولت «علم اجتماع الدين» و«الأديان المقارنة»، بما لا يقتصر على الأديان الإبراهيمية، إلى جانب الأنثروبولوجيا والتاريخ واللسانيات وعلوم اللغة، كحقول معرفية لا بد من الاهتمام بهما فى الكليات التى تدرس علوم الدين، وهنا أكمل:
(ز) علم الآثار: وهو الذى يدرس ما تركه الإنسان القديم من موجودات مادية لها صلة بمعتقداته وتدبير معيشته والتعبير عن أفراحه وأتراحه، وبالتالى يفتح باباً لمعرفة كيف تطوّرت الأديان من خلال هذه الموجودات، وهى مسألة مهمة لتُبين للمتطرفين أن ما يدّعونه من امتلاك الحقيقة المطلقة هو مزاعم من عند أنفسهم، وأن الأمم الغابرة لم تكن على الكفر والشر، وأن الدين قديم قدم الإنسان.
والمثل الذى يمكن أن يُضرب فى هذا المقام هو ما وجده علماء الآثار محفوراً على جدران المعابد المصرية القديمة، وكذك فى آثار بابل، من ذكر للوصايا العشر، التى وردت فى التوراة والإنجيل واشتمل عليها القرآن الكريم، وهى وصايا تجاه الله سبحانه وتعالى (لاَ يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى أَمَامِى، لاَ تَصْنَعْ لَكَ تِمْثَالاً مَنْحُوتاً، وَلاَ صُورَةً مَا مِمَّا فِى السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ، وَمَا فِى الأَرْضِ مِنْ تَحْتُ، وَمَا فِى الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ الأَرْضِ. لاَ تَسْجُدْ لَهُنَّ وَلاَ تَعْبُدْهُنَّ، لا تحلف باسم إلهك باطلاً، اُذْكُرْ يَوْمَ السَّبْتِ لِتُقَدِّسَهُ)، وتجاه القريب (أكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ لِكَىْ تَطُولَ أَيَّامُكَ عَلَى الأَرْضِ الَّتِى يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ)، وتجاه المجتمع (لا تقتل، لا تزن، لا تسرق، لا تشهد شهادة زور، لاَ تَشْتَهِ بَيْتَ قَرِيبِكَ. لاَ تَشْتَهِ امْرَأَةَ قَرِيبِكَ، وَلاَ عَبْدَهُ، وَلاَ أَمَتَهُ، وَلاَ ثَوْرَهُ، وَلاَ حِمَارَهُ، وَلاَ شَيْئاً مِمَّا لِقَرِيبِكَ).
وعلم الآثار مهم فى هذه الناحية، خصوصاً أنّ الكثير من الكتابات التى تخص نقد الأديان لا تتسلح بالطرق العلميّة، أى تخلو من الأدلة الأركيولوجية، وهى الطريقة الوحيدة التى من الممكن أن تترك أثراً ووعياً بعد عدة قرون عند البعض من غير الدوغمائيين.
وعلماء الآثار من خلال قراءتهم للنقوش وعثورهم على قطع أثرية وحفريات، بوسعهم أن يدلوا بدلوهم حيال الكثير من الروايات الدينية التاريخية التى يُردّدها الناس باعتبارها حقائق لا تقبل النقد ولا النقض، ولا يصبح من المستساغ أن تظل هذه الروايات متداولة، رغم أن الأثريين برهنوا على عدم صحتها، أو على الأقل هزوا ثباتها، أو على الأقل جعلوها موضع مساءلة أمام أفهام المعاصرين.
(ح) علم النفس: وهنا نجد اختلافاً بين اتجاه يذهب إليه سيجموند فرويد، ينظر إلى الدين باعتباره ظاهرة عصابية تُترجم رغبة النكوص إلى الطفولة، حيث الحاجة إلى الأبوة، وآخر يسلكه كارل يونج الذى ينظر إليه باعتباره غريزة ترمى إلى تحقيق الوحدة والاكتمال، وتجاوزها يؤدى إلى العصاب، وثالث يؤكده إريك فروم الذى تعامل مع الدين باعتباره تجسيداً لحاجة الإنسان الجوهرية إلى مذهب أو إطار يوجّهه، وإلى العبادة، لما تحققه من إشباع حاجات روحية.
لكن الاستفادة من علم النفس تتعدى هذه الرؤى الكلية التى تريد أن تفسر الدين بإعادته إلى أسباب حياتية أو احتياجات نفسية واجتماعية بحتة، كى تمتد إلى تبصيرنا بأحوال الإنسان وخواطره والعناصر التى شكلت شخصيته، على اعتبار أن الإنسان ابن عوائده، وكذلك ابن الجينات التى ورثها عن أبيه وأمه وأجداده من الجانبين، وبالموروث والمكتسب صُنعت تصوراته وتصرفاته. ومعرفة هذا تجعل بوسعنا أن نعذر الناس، ونصبر عليهم إن أردنا تغييرهم إلى الأفضل، ولا نوصد أمامهم الأبواب إن كانوا يقترفون إثماً أو يفعلون سوءاً، دون أن نُسقط من حساباتنا أن كثيراً مما يعتبره المتطرفون إثماً وسوءاً، ليس بهذا على كل حال.