عمار علي حسن
.. وبلغت تحولات الأديان مداها فى الحروب التى قامت باسم الأديان، فالإمبراطوريات الإسلامية المتعاقبة أشهرت سيوفها، بحثاً عن الأرض والثروة والمجد، وقفزت على دفاعية الحرب وعدالتها حسبما يفرض القرآن العظيم، وحوّلتها إلى حروب هجومية، مدعية أنها تنشر دين الله. وأفرطت المسيحية فى هذا حين انطلقت جيوش «الفرنجة» إلى بلاد الشرق، رافعة شعار «الصليب»، وقتلت وشرّدت فى زحفها المتكرر مئات الآلاف من المسيحيين فى جنوب أوروبا، ناهيك عن الدماء التى سالت على أرض الشام فى المعارك الطويلة بينهم وبين جيوش المسلمين. وارتكبت العصابات الصهيونية أبشع المذابح على أرض فلسطين، ووصل الأمر إلى حد أن قتل جيش الحرب الإسرائيلى الأسرى العرب، فى سبيل تحقيق نبوءة دينية مزعومة.
وثانيها أن تصير الأديان لدى البعض نوعاً من الفلكلور حين تتماهى فى الموروث الشعبى، فيختفى جوهرها العقدى إلى حد ما، وتستبدل طقوسها التى تفرضها الشريعة، وتحدّد طريقة أدائها فى صيغة تفصيلية، بطقوس أخرى تتعارف عليها الجماعة، وتتبناها وتدافع عنها، وتصل بها أحياناً إلى حد من القطيعة مع الطقس الأصلى. ومن الأمثلة الجلية على ذلك ما تفعله الطرق الصوفية، التى تبدو فى الجانب الأغلب منها ظاهرة فلكلورية تلبس ثوب الدين، وتتخلى فى تفضيلها «الحقيقة» على «الشريعة» عن الالتزام التام بالفرائض، وتحل محلها أذكارها وأورادها الخاصة، وقد يصل الشطط ببعض أتباعها إلى حد ادعاء أنه قد نزل على شيخهم كتاب من السماء، مثلما يزعم «البرهانية» عن كتاب «شراب الوصل»، وهو عبارة عن أشعار تم إخراجها فى شكل مشابه للمصحف الشريف، وكذلك مثل مزاعم «التيجانية» التى تقول إن شيخهم الأكبر قد فُرضت عليه صلاة مختلفة وهو راجع من رحلة الحج، وإن الرسول، صلى الله عليه وسلم، قد تجلى له فى الصحراء الجرداء وأملاها عليه.
وهناك من يحوّل الدين إلى أسطورة خالصة، حين تختلط «أساطير الأولين» بالعقائد والتصورات. وهذه المسألة قديمة قِدَم الدين والإنسان معاً، فأديان مصر القديمة والميثولوجيا اليونانية، طالما زحفت إلى التأويلات المسيحية واليهودية، فعمّقت الهوة بين ما أُنزل على «موسى» و«عيسى»، عليهما السلام، وبين ما يعتقد فيه أتباع الديانتين. وفى الإسلام توسّع المتصوفة فى الاعتقاد فى كرامات الأولياء، وخلعوا عليهم خوارق الأعمال والصفات، واستسلم الشيعة لفكرة «الإمام الغائب» ولم يراجعوها إلا مراجعة جزئية ومؤقتة على يد «الخمينى» من خلال فرض مبدأ «ولاية الفقيه»، وتسرّبت الأساطير إلى علم الكلام، وبعض السير والتصورات والأفكار الغنوصية عن الدين.
ويحول البعض الدين إلى تجارة، ويطوع النص لخدمة المسار الرأسمالى، ويبالغ فى الحديث عن الملكية الخاصة، متناسياً أو مقللاً من شأن ضرورة توافر «حد الكفاية» لكل المسلمين، ويغالى فى التنعّم بالملذات المادية، متغافلاً عن أن الزهد من الجواهر الروحية للدين. ولم يقف الأمر عند حد الخدمة النظرية لهذا المسار، بل تجسّد بطريقة مخيفة فى اتساع ظاهرة الاسترزاق بالدين، عبر تحويل علومه إلى سلعة تُعرض باستمرار، سواء من خلال المطابع أو الشاشات الزرقاء. وأدى هذا إلى تحول بعض منتجى الفقه والفتوى والدعوة إلى أصحاب ملايين، واتجهت رؤوس أموال طائلة للاستثمار فى هذا المجال، فانطلقت عبر الأثير العديد من القنوات الفضائية الدينية، وتمكنت من جذب إعلانات قيمتها ملايين الدولارات. وبمرور الوقت تبدأ آليات السوق تؤدى دورها فى هذا النوع من الإنتاج، فينفصل تباعاً عن منشئه وجوهره وأصله، وفى هذا خطر داهم على الدين.