عمار علي حسن
امتزج فى جمال الدين الأفغانى (1838 ـ 1897) الفكر بالحركة، وحددا وجهة خياله السياسى الطموح والجموح. فالأفغانى، الذى لم يكن محاربا بالسيف ولا بالبندقية مثل محرر أمريكا اللاتينية سيمون بوليفار، ولا فى موقع سياسى رسمى مثل ونستون تشرتشل، ولا استُنبطت أفكاره من حركته مثل المهاتما غاندى، بل كان يفكر وهو يتحرك، ويتحرك وهو يفكر، غير عابئ بتدوين ما يقوله، ولا بخطر ما يفعله، على قدر ما فيه من جسارة.
وفى كتابه «تاريخ الفكر السياسى والاجتماعى فى مصر الحديثة 1834 ـ 1914»، يقول د. عزت قرنى: «كان الأفغانى يريد أن يكون رجل نظر، حكيما من الحكماء العظام، ولكنه فى الواقع كان مشغولا بالعمل، راغبا فى التغيير بكل الوسائل المتاحة له، من تدبير الثورة إلى التحريض عليها، إلى الكتابة فى الصحف، حتى الدردشة فى مقاهى مصر، وتحت سماء الأستانة». ويُنظر إلى الأفغانى باعتباره «داعية إسلاميا وفيلسوفا ومعلما، وهو المحفز الرئيسى للقومية المبكرة فى مصر وبلاد إسلامية أخرى، بعد أن دعا إلى العقلانية للمستنيرين، والإسلام الراشد للجماهير مع معارضة للاستعمار البريطانى»، حسبما وصفه «قاموس تراجم مصر الحديثة» لآرثر جولد سميث.
وبذا كان للأفغانى موقفان، الأول هو موقف المدافع عن تراث المسلمين والتصورات الدينية التقليدية، نظرا وعملا، والتى ترسخت خلال العقود الأولى للإسلام فى زمن الرسول والخلفاء الراشدين. والثانى هو موقف الرجل العصرى الذى تجرى على لسانه وبسن قلمه لغة علمانية إلى حد ما. ومن جماع الاتجاهين دافع إلى حد ما عن الحرية، حرية الأمة وحقها فى مقاومة الاحتلال والاستغلال، وإلى حد واسع عن العدالة، فتعامل معها دينيا على أنها السير على الطريق المستقيم، واجتماعيا على أنها إنهاء الاستغلال، فاهتم بمصير الفلاح، وندد بأنانية الأثرياء. وقد كانت خطبه النارية ومقالاته الصحفية هى تركته الأساسية، ولذا يعتبر، رغم أنه كان صاحب شخصية فذة ومحورا للعالم الإسلامى فى القرن التاسع عشر، من رجال السياسة قبل كل شىء، ونظر إليه محبوه نظرتهم إلى وطنى كبير، ونظر إليه خصومه على أنه مهيج خطير، ويتفق الكافة على أنه أول فصل من فصول الحركات الإسلامية المعاصرة، ومصدر الإلهام للمسلمين فى موقفهم من الحياة العصرية والتجديد، وصاحب التأثير الأكبر فى الحركات التحررية والدستورية التى قامت بعده فى الدول الإسلامية.
ويضعه حسين أحمد أمين ضمن «المائة الأعظم فى تاريخ الإسلام» ويرى أن منابع إلهام الأفغانى تمثلت فى الاطلاع على تاريخ المسلمين وفكرهم عبر الحقب المتعاقبة، والإلمام الواسع بأفكار الأوربيين وشؤونهم. وغذى هذا خياله ليس فى اتجاه إنتاج أفكار مبدعة، فهو فى الحقيقة لم يؤلف سوى كتابين صغيرين لا وزن ثقيلا لهما، إنما فى الحركة، حيث نفخ فى أوصال الحركات الوطنية المحلية فى كل قطر إسلامى، وصولا إلى فكرة «الجامعة الإسلامية».
وهنا يقول أحمد أمين عنه فى كتابه «زعماء الإصلاح فى العصر الحديث»: «كم من الناس علموا أكثر مما علم، وقرأوا أكثر مما قرأ، ورطنوا أكثر مما رطن، ولكن لم يكن لأحد منهم شخصية كشخصيته».
وقد كان الأفغانى يجمع شتات العالم الإسلامى فى شخصه، وعبر عن المشكلات والمصاعب التى عانى منها المسلمون فى زمنه، وراح يعمل ضد تلك المصاعب بطاقة هائلة، وإذ كان أدرى المسلمين بمصيبة إخوانه المسلمين، فقد راح يحضهم بحماسة وثابة نارية على محاولة فهم وضعهم، والعزم على إصلاحه وتغييره، مؤكدا أن إبعاث الإسلام هو مسؤولية المسلمين أنفسهم، لا مسؤولية الخالق، فمستقبل المسلمين لن يكون عظيما إلا إذا جعلوه عظيما. وربما نجد اقتراباً من الحديث عن خيال الأفغانى إن تتبعنا ما كان يحدوه من أمل، وما كان يقدر عليه هو من فعل جسور فى سبيل تحقيق أمانيه. فهو كان له حلم عظيم يسع ما شاء الله له أن يسع، ووظف كل ما ينطوى عليه الأدب من خيال وبلاغة فى خدمة الشعب، يطالب بحقوقه، ويدفع الظلم عنه، ويهاجم من اعتدى عليه كائنا من كان، يبين للناس سوء حالهم ومواضع بؤسهم، ويبصرهم بمن كان سبب فقرهم، ويحرضهم أن يخرجوا من الظلمات إلى النور، وألا يخشوا بأس الحاكم، فليست قوته إلا بهم، ولا غناه إلا منهم، وأن يلحوا فى طلب حقوقهم المغصوبة، وسعادتهم المسلوبة. فخرج على الناس بأدب جديد ينظر للشعب أكثر مما ينظر إلى الحاكم، وينشد الحرية، ويخلع العبودية، ويفيض فى حقوق الناس وواجبات الحاكم، ويجعل من الأدب مشرفا على الأمراء، لا سائلا يمد يده للأغنياء.
والخيال السياسى للأفغانى امتد إلى أنه كان قادرا على شحذ خيال من تحلقوا حوله، وتأثروا به، ففاضوا فى الحديث عنه، حتى إنهم انتقلوا أحيانا من الحقائق إلى الأساطير، ووقفوا كثيرا عند شعورهم بأنه رجل ملهم وعظيم، وأن ما يطلبه بات واجبا لا فكاك منه. ولهذا يمكن أن نقول إن هناك جمال الدين كما هو فى ذاته، أو فلتقل على حقيقته. وإن هناك أيضا أسطورته كما نشرها هو ببراعة عظمى، واستخدم فى نشره عشرات من التلاميذ، وبعضهم كأنه شبه مسحور، وأسطورته تلك هى التى عرفه الناس من خلالها، ولايزال أكثرهم على هذا الحال حتى يومنا هذا فى البلاد الناطقة بالعربية، وهى التى أثرت على من أثرت عليه وسيكون منهم رجال عظماء.
وآمن الأفغانى بأن الإصلاح يمكن تحصيله فى التو، شرط العمل من أجل بلوغه. ولذا رفض طلب تلميذه محمد عبده وهما فى باريس عام 1883، أن يذهبا سويا إلى مكان غير خاضع لسلطان دولة تعرقل مشروعهما الإصلاحى، ليؤسسا مدرسة للزعماء، ويختارا تلاميذها من الأقطار الإسلامية، ويقوما بتربيتهم لمدة معينة، فيصبحوا بعدها مؤهلين لقيادة الإصلاح فى بلدانهم، فالأفغانى، كما يقول العقاد فى كتابه «عبقرى الإصلاح والتعليم الإمام محمد عبده»، كان يتصرف دوما على أنه لا وقت للانتظار، فهو خلق للدعوة والحركة فى مجال العمل السياسى والثورة الأممية، والتمرد على مقتضى الحال، ولذا كان يقول لمحمد عبده ناصحا: «كن فيلسوفا يرى العالم ألعوبة، ولا تكن صبيا هلوعا». وحين قال له أحد الجالسين إليه ذات يوم: «إن المستعمرين ذئاب» رد عليه: «لو لم يجدوكم نعاجاً لما كانوا ذئابا».
ومن أمارات تمرده أنه كانت السلطة لا تصبر على استئناسه طويلا، ففى بواكير عام 1879 أسهم فى تأسيس جمعية سياسية سرية كان الأمير توفيق أحد أعضائها فى وقت ما، لكنه حين صار خديو فى العام نفسه وقع تحت تأثيرات معادية، فطرد الأفغانى من مصر. وبعد أن اتهم فى محاولة اغتيال الشاه، ذهب إلى إسطنبول وحل ضيفا على السلطان عبدالحميد الذى سرعان ما اختلف معه وطرده. وانتهت حياته بدس السم له، ثم قيل إنه قد أصيب بسرطان لا يرجى منه شفاء. ومن دون شك أن الأفغانى بتحريضه على مقاومة الظلم، سواء فى أحاديثه المباشرة إلى تلاميذه على المقاهى، أو فى مقالاته التى حملتها جريدة «العروة الوثقى» أو تصرفاته التى كانت تتسم بالجرأة والإقدام، قد لعب دورا فى الثورتين الفارسية والعرابية. ولذا لم يكن الإمام محمد عبده يجافى الحقيقة حين كان يصفه قائلا: «الشيخ الجليل الذى كان يجلس على قهوة متاتيا يوزع السعوط بيمناه والثورة بيسراه».
نقلاً عن "المصري اليوم"