توقيت القاهرة المحلي 14:21:48 آخر تحديث
  مصر اليوم -

«عالم جاهل» و«متعلم همجى»

  مصر اليوم -

«عالم جاهل» و«متعلم همجى»

عمار علي حسن

يقع كثيرون من المشتغلين بالعلوم فى فخ الانشغال بفرع واحد، ولا تنمو لديهم سوى ملكة واحدة، بل قد تضمر بمرور الوقت، تحت وطأة الاستسلام للسير فى مسرب علمى محدد. ويبدو حال مثل هذا الباحث شبيهاً بإنسان له أنف ضخم وأذن هائلة لكن جسمه ضئيل معلق بهما، حسب تصور الفيلسوف الألمانى فريدريك نيتشة. بل يطلق البعض عليه لقب «الهمجى المتعلم» Savage The Learned أو «العالم الجاهل». فإذا كان التخصص المتزايد قد أفاد العلم، فإن فائدته بالنسبة للعالم نفسه هى محل شك، فالعالم الذى يكرس حياته كلها لمجال أو فرع علمى ضيق، يتحدد تفكيره بهذا المجال ويصعب عليه الخروج عنه، مع الثورة الرهيبة فى المعلومات والمعارف.
فكل فعل إنسانى يجب فهمه فى سياق نفسى واجتماعى واقتصادى وسياسى وثقافى فى آن، الأمر الذى يجعلنا فى أمسّ الحاجة إلى رؤية إحاطية أو تكاملية، تستفيد من عطاء العلوم الإنسانية على وجه الخصوص. ومن دون ذلك ليس بوسعنا أن نتخيل طرقاً ناجعة مختلفة للتعامل مع المشكلات البحثية والحياتية التى نواجهها.
وقد لفت هذا نظر الفيلسوف الكبير فؤاد زكريا فقال فى كتابه البديع «التفكير العلمى»: إن «التخصص المفرط لا يؤدى فقط إلى عزل المشتغل بالبحث العلمى عن كافة جوانب المعرفة الأخرى، بل يعمل أيضاً على توسيع الفجوة بين العلم والإنسان، إذ يحوّل العلم إلى أداة فنية مفرطة فى التعقيد، وإلى مجموعة من الإجراءات التى تقتضى تدريباً وتعليماً مكثفاً، ومن ثم يتباعد العلم تدريجياً عن الإنسان فى وجوده المتكامل المحسوس، وفى مشاكله الواقعية العينية، ويزداد البحث العلمى عجزاً عن رؤية الصورة الكلية للحياة الإنسانية، لأنه يفنى عمره فى قطاع شديد الضآلة من قطاعات عالم الطبيعة أو الإنسان». وبمرور الزمن قد يعتقد أن المسرب الضيق الذى يمر فيه هو الحياة بأسرها، ولا يتخيل شيئاً مختلفاً عنه، أو متناقضاً معه، أو حتى مكملاً له.
لكن التمرد على ضيق التخصص، والخروج منه إلى براح المعرفة الإنسانية الواسعة، أو استخدام عطاءات العلوم والمعارف الأخرى فى تعزيز «التخصص» وإثرائه، ورؤية الجوانب المظلمة فى الظواهر التى يدرسها المتخصصون صار مألوفاً لدى كثير من الباحثين فى الوقت الراهن. ولهذا يقول «رايت ميلز» فى كتابه «الخيال العلمى الاجتماعى»: إن «الحقيقة المركزية اليوم هى تحلل الحدود الفاصلة بين الأنظمة بصورة متزايدة، فالمفاهيم أصبحت تتحرك من نظام إلى آخر بيسر وسهولة متنامية. وفى هذا الشأن سنجد أن هناك حالات بارزة فى مجالات العمل ترتكز على الاقتصار على التمكن والسيطرة من لغة ميدان واحد ثم استخدامها بحذق ومهارة فى المجال التقليدى لمجال آخر.. ونحن نجد أن كل علم من العلوم الاجتماعية قد عملت على تشكيله تطورات داخلية ذات صبغة فكرية، كما أن كلاً منها قد تأثر أيضاً بصورة قاطعة بأحداث نظامية، وكثيراً ما كانت مسألتا التسامح والاختلاف فى مجال الأنظمة القائمة بالفعل، وتشمل الفلسفة والتاريخ والعلوم الإنسانية، هما اللتان تحكمان ميادين علم الاجتماع والاقتصاد والأنثروبولوجيا وعلم السياسة وعلم النفس».
وقد ضرب «رايموند جيس» فى كتابه «السياسة والخيال» مثلاً ناصعاً على استخدام الدراسات عبر النوعية فى إطلاق خياله العلمى، حيث وظّف معرفته الواسعة بالتاريخ والأدب والفنون واللغات الأوروبية والفلسفة لتحليل وضع السياسات العالمية فى الوقت الراهن واستشراف مستقبلها، فى مقالات متتابعة متنوعة، حاول فيها أن يثبت أن توظيف الخيال فى صنع السياسات لا يقتصر على المثاليين، أو النازعين إلى والراغبين فى بلوغ الوضع الأمثل، إنما أولئك الذين يتفاعلون بشكل جاد مع الواقع.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«عالم جاهل» و«متعلم همجى» «عالم جاهل» و«متعلم همجى»



GMT 14:09 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

تركيا في الامتحان السوري... كقوة اعتدال

GMT 14:07 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

كيف نتعامل مع سوريا الجديدة؟

GMT 14:06 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

سيناء فى عين الإعصار الإقليمى

GMT 14:04 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

تنظير في الاقتصاد بلا نتائج!

GMT 10:09 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

جنبلاط والشرع وجروح الأسدين

GMT 10:08 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

بجعة سوداء

GMT 10:07 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

عن «شاهبندر الإخوان»... يوسف ندا

GMT 10:05 2024 الإثنين ,23 كانون الأول / ديسمبر

لبنان... إلى أين؟

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 22:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

بشرى تكشف عن أمنيتها للعام الجديد
  مصر اليوم - بشرى تكشف عن أمنيتها للعام الجديد

GMT 07:12 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

فينيسيوس الأفضل في العالم لأول مرة وهذا ترتيب ميسي وصلاح

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2019 الإثنين ,09 كانون الأول / ديسمبر

إيهاب جلال يطمئن على فريد شوقي بعد تحسن حالته

GMT 16:26 2019 الأحد ,10 آذار/ مارس

سيدة كل العصور

GMT 06:37 2018 الثلاثاء ,28 آب / أغسطس

تعرف على سعرالمانجو في سوق العبور الثلاثاء

GMT 01:04 2018 الثلاثاء ,01 أيار / مايو

وداع أندريس إنييستا يخيم على احتفالات برشلونة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon