تقع «التنمية الذاتية» فى قلب المواجهة الاقتصادية، لأنها تنبنى أساسًا على السعى الحثيث إلى الاكتفاء الذاتى أولا ثم التفاعل الخلاق مع الدوائر الاقتصادية العالمية ثانيا، وكلاهما شرطان رئيسيان لمواجهة ما لدى الآخر المنافس، وكذلك العدو الآنى أو المحتمل.
ولا يعنى هذا بالضرورة أن التنمية الذاتية هى مجرد تعبئة اقتصادية، فهذه وظيفة ظرفية وطارئة، بل هى وقاية تامة للأمة من الضعف والهوان وذل الحاجة إلى المساعدات وصيانة للغالبية العظمى من الجماهير من العوز والفاقة، بما يوطن نفوسهم ويشد ساعدهم، فلا يكونوا قابلين للغزو أو الاستغزاء. كما لا تعنى التنمية الذاتية الانسلاخ الكامل عن النظام العالمى، فهذا مقصد غير علمى، وتوجه يجافى الواقع، ولا يصمد أمام التطور الاقتصادى الدولى، إنما تركز على «الانسلاخ الانتقائى» الذى يجعل العلاقات الدولية فى خدمة «التنمية المستقلة» أو على الأقل لا يجعلها عقبة كؤود أمامها. وهى هنا قد تساهم فى إنقاذ «التنموية» كحركة علمية طفت على السطح منذ الحرب العالمية الثانية وأفرزتها المدرسة السلوكية فى العلوم الاجتماعية لمواجهة المد الشيوعى من السلبيات التى التصقت بها، والمآخذ التى سجلت ضدها، والتى فضحتها مدرسة «التبعية»، وشككت فى مسلماتها الفلسفية، وكشفت الجوانب الخفية لها.
والتنمية الذاتية بما تعنيه من حق تقرير المصير الاقتصادى لا تدعو إلى اتباع سياسة العزلة التامة عن العالم، إنما هى ترمى إلى تحويل الاقتصاد التابع أو الهامشى إلى اقتصاد مستقل عن الأبنية الرأسمالية المتسلطة والمسيطرة على السوق العالمية، دون فقدان العلاقات الاقتصادية المتبادلة، التى تحقق مصالح الدول النامية. ومن يمعن النظر فى تاريخ التنمية على مدار القرون الثلاثة الأخيرة سينتهى إلى حقيقة جلية مفادها أنه لا توجد حالة تنمية واحدة تكللت بالنجاح من دون توافر العناصر الأساسية للتنمية الذاتية، والتى تقوم على القواعد التالية:
أ ـ بلورة هوية وطنية جامعة، تمنح الفرد والجماعة معا إطارا متماسكا يمكنها من بناء رؤية محددة للعالم تساعد على حسن التعامل معه، ونظرة إلى الذات تقود إلى احترامها وتقديرها.
ب ـ تعزيز القدرة على الضبط والقيادة الذاتية فى مختلف المجالات، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
ج ـ تنويع النشاط الاقتصادى وتوسيعه على مستوى القطاعات الاقتصادية كافة، وتأسيسه هذا على نظام تعليمى يخدم برامج التنمية الشاملة.
د ـ وجود إرادة حرة فى تحديد شكل وحجم التعاون المتبادل مع الدول الأخرى، بما يحقق المصالح المشترك.
ومن هنا تتجسد التنمية المستقلة فى نطاق عوالم ثلاثة هى عالم الرؤى والمفاهيم والتصورات، وعالم المواقف والخيارات، وعالم الفعل والتصرفات الذى ينصرف إلى الخطط والبرامج والأدوات والمؤسسات، وهى فى جوانبها النظرية وتطبيقاتها العملية تعنى تسعة أمور أساسية يحددها عالم الاقتصاد الراحل الدكتور إسماعيل صبرى عبد الله فى:
1 ـ الاعتماد على النفس فى مواجهة الاستثمارات الأجنبية.
2 ـ وجود تنمية تتمحور حول الذات، وتتوجه إلى الداخل، فى مواجهة انشطار الاقتصاد إلى شق تحديثى يرتبط عضويا بالشركات متعددة الجنسيات وشق تقليدى يتأسس على أشكال الإنتاج القديمة المتوارثة والبسيطة.
3 ـ توفير حد الكفاية أو الحاجات الضرورية لعموم المواطنين.
4 ـ الاهتمام بالتنمية البيئية للموارد الطبيعية حتى لا تؤدى إلى نضوبها، وحرمان الأجيال القادمة من حقها فيها.
5 ـ توسيع المشاركة الشعبية من منطلق أن الديمقراطية السليمة هى أحد الأطر المهمة التى تحفظ التنمية الذاتية وتوجه حصادها إلى مكانها الطبيعى.
6 ـ اللجوء إلى تقنية ملائمة لظروفنا، تلبى احتياجاتنا، وتغنى نفوسنا عن الانبهار الرخيص بالتقنيات المتقدمة التى لا نحوزها إلا بالاستيراد، ولا يسمح لنا بامتلاكها إلا فى ظل التبعية. ثم العمل على تطوير ما لدينا من تقنيات، فى ظل استراتيجية ترمى إلى بناء قاعدة علمية وتقنية وطنية، تساهم فى ردم الهوة بيننا وبين الدول الصناعية الكبرى.
7 ـ التمسك بالهوية الحضارية والخصوصيات النافعة فى مواجهة الذوبان فى الآخر، أو الانسحاق أمامه، ومحاكاته وتمثله.
8 ـ دفع الاقتصاد الوطنى نحو التكامل الداخلى بما يمكنه من تصفية الجيوب المرتبطة بالخارج، وفى مقدمتها مناطق تركز النشاط التابع للشركات متعددة الجنسيات.
9 ـ الميل إلى الاعتماد الجماعى على النفس على المستوى الإقليمى، وبين الدول المتجاورة، بما يمكنها من تشكيل كيانات اقتصادية كبيرة بوسعها النضال ضد أساليب الاستعمار الجديد وسعى الدول الكبرى فى السيطرة والاستغلال، وفى مكنتها الوقوف فى وجه التكامل الاقتصادى الذى يجرى بين الدول الصناعية.
أما الجوانب التطبيقية أو الإجرائية للتنمية الذاتية فتبدأ بحصر شامل لجميع الموارد المحلية المتاحة من قوى عاملة ورأسمال ومواد خام ووسائل إنتاج ومعارف تنتجها النخبة أو يجود بها الموروث الشعبى، ثم القيام بربط حركة التصنيع بالموارد المحلية، وتطوير أساليب الإنتاج القائمة وتشجيع ابتكار أخرى تلائم الموارد المحلية من جهة، وتلبى احتياجات القاعدة العريضة من الشعب، ورفع إنتاجية القطاع الزراعى، باعتبار الزراعة هى المكون الأول للنشاط الاقتصادى، والذى تضيق فيه الفجوة بين الدول مقارنة بالصناعة والتكنولوجيا.
(نكمل الأسبوع المقبل إن شاء الله تعالى)