رأيته يتأبط عوده عائدًا في المساء من الزمن الذي ولّى. كان مجهدًا وعيناه تنظران إلى لوحة تحمل صورتها واسمها، تكاثف عليها غبار الطريق وعوادم محركات عمياء لا تعرفها. كان غاضبًا لأنه يرى المحبوبة المقدسة قد تُركت للعبث على هذا النحو، وظن أن الناس قد نسيتها، وبالتبعية نسيته هو تمامًا، لكن في غمرة حزنه ترامى إليه صوتها ينطق من مذياع سيارة تمرق.
كانت تشدو: «من كتر شوقى سبقت عمرى»، فنزع العود من تحت إبطه، وهزه في الهواء المتدفق من النهر إلى الميدان الفسيح، وكاد يرقص، منقلًا ساقيه النحيلتين في حذر على «بيضة الديك» التي أطلقها في فضاء اللحن، ثم توقف. كان ذكر نحل لقح ملكة الملكات وتركها تصنع مملكة الطرب على مهل، ثم تستوى على عرشها إلى الآن، ومات هو راضيًا عنها رغم قسوتها عليه كأى ولى يقابل الإساءة بمزيد من الإحسان.
آه يا سيدى الطيب، كيف رضيت وخضعت وجلست خلفها على عودك مستمتعًا برؤيتها وسماعها، خائفًا من فراق لا تقوى عليه، وتاركًا كل ما لك إلى ما لها؟ الإجابة لا يقدر عليها إلا المحبون. فالفناء في المحبوب وجود، والوجود فناء، وبين الفناء والوجود بقاء، ولا يقدر على الانتقال من هذا إلى ذاك والعودة إليه إلا أولو العزم، وكنت منهم دون أن تدرى.
أراك الآن تتسلل من الميدان الفسيح ذاهبًا إلى شاطئ النهر بعد أن سمعت لحنك وصوتها، واختليت إلى عودك الذي ظل يرتعش زمنًا طويلًا خائفًا مترددًا قانطًا حانقًا تائهًا، فثبّت عودك بين يديك، ونظرت إلى الماء المنساب أمام ناظريك، وأطلقت عقيرتك بما لم تسمعه، ولم تشدُ هي به، ولم تلحنه أنت ولا غيرك.
ها أنت تتجاوز ما وقفت عنده، تميل على عودك في تبتُّل، وتغمض عينيك وتطلق عقيرتك بالغناء. يااااااااه، كم هو لحن مختلف، يتجاوز كل ما انتهيت إليه في زمن مضى، فتعبره إلى ما هو فوقه وأنت مطمئن إلى أن الدنيا قد أهدتك إلى ما يجعلها تسعى خلفك، غير راغبة إلا في لحن جديد يدفعها خطوة، أما أنت فغير عابئ إلا بمسرتها.
يا أيها الذي ذهب كى تأتى، وغاب كى تحضر، ما لك قد عشت في وهم أن ما لديك قد انقضى. إن كل الألحان التي كانت في رأسك راحت معك، وها هي تعود بعودتك، وإن لم تكن هي حاضرة لتشدو بها، فأطلقها في الفضاء وليصدح بها من يشاء، وها نحن نلتقطها بآذان مصغية، وقلوب طروبة.
هكذا سمع من يناديه وهو تائه في الماء والنسيم والزمن ووجوه الذين يمرون به ولا يعرفونه، فآمن وقتها أن هناك ما فوق غناء البشر، إنه اللحن الذي يسرى في السماوات العلا، ولا يلتقطه إلا ذوو الحظوظ الوافرة.
مسّه ما أدركه غيره، فوقف على شاطئ النهر لا يريد أن يرى أحدًا من زمان غير زمانه، وسأل:
ـ هل كان ما انتهيت به إليها نهايتى؟
لم يكن في حاجة إلى إجابة، فقد ذهب وهو يعرفها، لكنه سمع من يقول له:
ـ اللحن هو انطباق السماء على الأرض، وانطلاق أشواق الناس في الفضاء الرحب، وهو النفوس إن انجلت، والأرواح إن هامت، والأجساد إن غابت، إنه الهيام والافتتان والشوق والحرقة والمسرة والأسى، إنه كل الأحوال والمقامات.
نظر إليه في دهشة، لم يكن لمثله أن يفعلها لو كانت لإنْسىّ، فهو يعرف، لكنها كانت لمن لا تراه الأبصار، فأدرك أنه نداء من ولى الله إليه، فرفع عوده إلى السماء، وسأل:
ـ كيف لم تأتنى وقتها وأنا في كمد؟
سمع ضحكة ملأت الأرض لحنًا عذبًا، وترامى إلى أذنيه ما لم يسمعه من قبل، أوتار مبعثرة اختلط عليها اللحن، ونشيج وحرقة وانفلات لصوت في أول المساء، وهمهمة وصوت لهفة تنتظر، واهتزاز قلب يرقص ويحدو، ودموع تسرى في أوصال شرايين مفتوحة على المحبة والحيرة والأسى.
وسمع ما لا يمكن سماعه، هو وحده المعذب الذي أتى من جوف زمن مضى، تناهى إليه كل شىء، فأسند عوده إلى شجرة واقفة على النسيم الذي يهديه النهر، ووقف في اتجاه البنايات التي تطل عليه من الشاطئ الآخر، لكنه لا يراها، رغم أنه كان يدرك في هذه اللحظة أن بيتها على الشق الآخر من النهر. لم يعد هو، فقد هدموه، وقتلوا ذكريات كل من حلوا به دون أن يدروا أنهم يقتلون مشاعر شعوب هائمة سائمة ضائعة حائرة لم تجتمع عبر ألف وخمسمائة سنة سوى على صوتين، ترتيل محمد، وشدو أم كلثوم.
حين يدرك هو هذا المعنى، يقف على حافة النهر، ظهره إلى الماء، ووجهه إلى الأشجار، وعيناه إلى الفضاء الفسيح الذي ذاب فيه ذات يوم بعيد وينادى عليها، لكنها كالعادة تخذله، فيحزن، وينظر هناك فيأتيه المدد، ألف ألف لحن يسرى أمامه، فيدرك وقتها أنه لم يعشق جسدًا ولا مسيرة، إنما اللحن الذي هو عبدٌ له، ليس عن خضوعٍ، إنما عن إيمان بأنه الشىء الوحيد الذي يبقى نابضًا بالحياة بعد أن يفنى العالم بأسره.
حينها يرى عوده سفينة نجاة، مثل تلك التي أهدى الله «نوح» إليها، فيقبض عليه بيديه، ويدفعه في رفق إلى الهواء الذي يسكن كل ما هو أمامه، فيأخذه من حيث أتى، مطمئنًا إلى أنه لا يزال باقيًا، وأن ما أطلقه وهو يظن تتويجًا لها وإسقاطًا له، قد صار حيًا في دنيا الناس، أكثر من حياة الذين كانوا يكيدون له.. ووقتها يقول قبل أن يعود إليها هناك في الفسحة الرحيبة المنعمة:
ـ لا يضيع شىء أصيل.
ويسمع وقتها وهو يغيب مرة أخرى من يشدو:
ـ يضيع كل شىء إلا الكلمة الطيبة واللحن الآتى من صميم القلب.