توقيت القاهرة المحلي 15:24:05 آخر تحديث
  مصر اليوم -

نصف الكوب السياسي الفارغ

  مصر اليوم -

نصف الكوب السياسي الفارغ

بقلم - عمار علي حسن

علينا أن نكون يقظين حيال الذين يطلبون من الناس، بجهل وغرض، أن يتحدثوا فقط عن نصف الكوب الملآن، وينعتوا المنشغلين بالعكس بأنهم متشائمون وعدميون ومحترفو اعتراض، فالاهتمام بالفراغ والفارغ، هو تعبير عن رغبة فى إتمام الناقص، وترميم المشروخ، واجتياز غير المأهول، واقتحام المجهول، بغية التقدم والترقى فى العيش.

ابتداء، لا تقوم السياسة إلا إذا جرى التفاعل بين الأفراد والأفكار والأشياء، لكن وجود هذه الأطراف وغيرها لا يعنى «موت الفراغ» إذ إنه يولد فى مختلف الظروف، بفعل تدابير وتصرفات غير محدودة، ويستقر فى المساحات غير المأهولة من العلاقة بين الشعب والحكومة، والروابط بين الدول، ووقت غروب بأس الإمبراطوريات الكبرى، وفى أيام الفوضى والاضطراب التى تحل بالدول، وبذا يبقى الفراغ السياسى مرهونا بغياب السلطة الأساسية، أو شعور الناس بغيابها، ولو مؤقتا، وقد يطول الوقت حين لا يكون بوسع الحكومة المركزية أن تبسط نفوذها على الأطراف الجغرافية للدولة، وتقنع الجميع بشرعيتها.

وقد أيقنت علوم شتى ضرورة الالتفات إلى الفراغ، لا سيما الفيزياء والهندسة، والفلسفة والإدارة، وبانت فى الدراسات اللغوية والسيمائية. وأتى علماء السياسة، فى الغالب الأعم، على ذكر الفراغ حين أسهبوا فى شرح اصطلاح «سياسة ملء الفراغ»، وكان المثل الصارخ على هذا هو قيام الولايات المتحدة الأمريكية بسد الفراغ الذى تركه انسحاب بريطانيا من شرق خليج السويس.

يكاد لا يوجد تصور نظرى متماسك ومسهب ومتكامل حول الفراغ السياسى باللغات الأساسية، فالكل يتحدث عن السياسة بوصفها بنت «الامتلاء»، وقد يكون هذا مرده إلى أن متخذى القرار يريدون للناس أن ينتبهوا فقط إلى «نصف الكوب الملآن»، مع أن «نصف الكوب الفارغ» هو ما يصنع الأحداث السياسية بطريقة أوسع وأكثر عمقا، فالتغيير، الذى قد يأتى هادئا منضبطا بفعل الانتخابات فى البلدان الديمقراطية أو عنيفا متفلتا على وقع الانتفاضات والثورات، هو ابن التفكير فى الجزء الفارغ، إذ إنه قد يثير حنق أو غضب البعض، ورغبة البعض فى البحث عما يملأ جزءا منه بغية التقدم إلى الأمام، وتحسين شروط الحياة.

ولا يقتصر الفراغ على هذا فحسب، بل قد يكمن فى المسكوت عنه فى الخطاب والممارسة السياسية، وما لا يقال، والذائب فى العقول والضمائر، وفى الامتناع عن فعل سياسى ما، لأسباب مختلفة، وفى المضمر الذى يسرى بين المسؤولين السياسيين، وبينهم وبين الشعب، وفيما ينكره أهل الحكم عن الناس، وكذلك ما يفكر فيه الناس، أو يتمنونه، لكن صاحب القرار لا يصل إليه تفكيرهم وأمنياتهم، وفى خطط الدولة التى تظل حبرا على ورق، حتى لو كانت معلنة، وفى المعلومات الناقصة التى لا يمكن الوصول إليها، أو لا توجد رغبة فى تحصيلها، قبل اتخاذ القرار.

وقد يكون الفراغ مجازيا أو معبرا عن رأى وموقف، حين نصف خطابا سياسيا بأنه «كلام فارغ»، ونصف أداء سياسيا بأنه «فعل أخرق»، ونصف حضور قطاعات من البشر فى الحياة السياسية بأنه غياب، وهى مسألة تزيد مع ارتفاع عدد غير الممكنين من الوصول إلى المساهمة فى صناعة القرار.

ويمكن أن يكون الفراغ متوهما، لكن هذا الوهم قد يرتب أفعالا، ويصنع أحداثا، ووقتها يكون الفشل معلقا فى رقبة أولئك الذين تركوا هذا الوهم يكبر ويستفحل. ويمكن أن يكون الفراغ نابعا من جهل بعض عموم الناس بالسياسة، فى وقت يعتقدون خطأ أن ما فى رؤوسهم هو السياسة دون زيادة ولا نقصان، وأنها بالضرورة بسيطة إلى درجة أن الجميع يفهمونها، وحقيقية لا تقبل التكذيب، ومتعينة يمكن الإمساك بها، ومعلنة ولا يمكن إخفاؤها.

ومن الوارد أن يحل الفراغ فى تصورات أو تهاويم عن موت الوقت، وموت المسافة، وموت الواقعة، وموت الشعب بالمعنى الرمزى أو المعنوى. ويمكن أن يحل فى أفعال سياسية تحتية مثل العشم والسخرية والهروب والتبخيس والتشويه.

كما يحل الفراغ فى الامتلاء الصورى القائم على تسديد الخانات، وشغل المسرح السياسى، وإنتاج كلام ليست له وظيفة سوى تمرير المواقف، والإيهام بوجود الحلول، والتظاهر باهتمام السلطة بالشعب. فالامتلاء الحقيقى يترتب على انحسار الفراغ فى الواقع، وليس فى أذهان الواهمين، وهو يقوم على بذل الجهد الذى يؤدى إلى تحقيق إنجاز.

وقد يعتقد البعض أن الفترة الزمنية المنحصرة بين التفكير فى شيء وتحقيقه فى الواقع هى فراغ، لكن هذا لا يعد فراغا إنما سعى فى اتجاه امتلاء، تبقى الدول والمؤسسات والأفراد فى حاجة ماسة إليه، حتى إن هناك من يطلب ملء الفراغ الموجود فى النظام الدولى بأسره، حين يُترك بلا قيادة أو حكومة عالمية فوق الدول القومية.

لقد علمنا أساتذتنا أن السياسة، فى الغالب الأعم، هى شىء يمكن أن نمسكه بأيدينا، لكن حين تقدم بنا العمر وجدنا تفكيرنا وممارساتنا السياسية موزعة بين الواقع والخيال، والحقيقة والمجاز، والامتلاء والفراغ، وأدركنا بالتجربة والوعى أن كثيرا من المفاهيم والمقولات السابقة فى حاجة إلى مراجعة.

نقلا عن المصري اليوم 

المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

نصف الكوب السياسي الفارغ نصف الكوب السياسي الفارغ



GMT 08:51 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

أين نحن من المفاوضات الدولية مع إيران؟

GMT 08:50 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

المعرفة التي قتلت لقمان سليم

GMT 08:46 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

لقمان سليم وتوحش النظام الإيراني

GMT 08:44 2021 الأحد ,07 شباط / فبراير

4 مليارات ثمن 12 بيضة

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 12:40 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

محمد حيدر مسؤول العمليات في حزب الله هدف عملية بيروت
  مصر اليوم - محمد حيدر مسؤول العمليات في حزب الله هدف عملية بيروت

GMT 13:16 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

شيرين عبد الوهاب توضح حقيقة حفلها بالسعودية
  مصر اليوم - شيرين عبد الوهاب توضح حقيقة حفلها بالسعودية

GMT 00:26 2021 الأربعاء ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

كريستيانو رونالدو يضيف لسجله أرقاماً قياسية جديدة

GMT 10:18 2020 الجمعة ,26 حزيران / يونيو

شوربة الخضار بالشوفان

GMT 08:15 2020 الثلاثاء ,09 حزيران / يونيو

فياريال يستعين بصور المشجعين في الدوري الإسباني

GMT 09:19 2020 الجمعة ,24 إبريل / نيسان

العالمي محمد صلاح ينظم زينة رمضان في منزله

GMT 09:06 2020 الأربعاء ,22 إبريل / نيسان

تعرف علي مواعيد تشغيل المترو فى رمضان

GMT 12:50 2019 الثلاثاء ,31 كانون الأول / ديسمبر

علالو يؤكّد الجزائر "تعيش الفترة الأهم في تاريخ الاستقلال"

GMT 04:46 2019 الأحد ,29 كانون الأول / ديسمبر

اتجاهات ديكور المنازل في 2020 منها استخدام قطع أثاث ذكي

GMT 00:42 2019 الثلاثاء ,24 كانون الأول / ديسمبر

بدء تصوير فيلم "اهرب يا خلفان" بمشاركة سعودية إماراتية
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon