بقلم - عمار علي حسن
الوقت ريح هوجاء، برق يسطع فيخطف الأبصار، وقبل أن تُدركه يغيب، وحين تظن أنه في يدك يتسرب من بين أصابعك دون أن تراه عيناك، ولا تعرف المكان الذي ذهب إليه. كل الأمكنة مطية للوقت، وإن تباعد بينها الرحيل وعز السفر. كل قدم حلت على أرض، ترابا كان أو رملا أو حجرا صوانا أو من أسفلت كفحمة الليل، بوسعها أن تقول أين حلت، لكنها تختلف في الإجابة عن سؤال: متى حلت؟، فالوقت ليس متفقا عليه بين الناس، وإن ضبطته آلات لا حصر لها: ساعات يد وحائط وشاشات هواتف وتليفزيونات، هي في كل مكان تطارد الناس، لكن قلة القلة منهم من تعرف الوقت، وتدرك أن سؤال: متى؟ أهم كثيرا من سؤال: أين؟، فكل أين يمكن أن نعود إليه، لكن أي متى؟ لا يمكن الرجوع إليه، فهو ما إن يبدأ حتى ينقضى، يذهب بلا رجعة، فلا ثبات ولا فرصة، سائل هو ينسكب على رمل سافٍ فلا يمكن جمعه. هواء يكون، يضرب خصلات رأس فتهفهف قليلا فرحةً بطيرانها العابر، لكن لا يمكنها أن تعيد النسمة السارية التي ضربتها وراحت.
الوقت ليس سيفًا، كما قال الأولون، إن لم تقطعه قطعك.. فنحن لسنا في حرب ضروس معه، إنما في لعبة مسالمة، نحايل ونداور ونطمع ونطمح، ونروح ونغدو، ونتوه ونفيق، ونقف ونمشى، ونموت ونحيا، ونهدهده حتى يكون بنا ليِّنًا رفيقًا رقيقًا، ونهمس له حتى يتلطف علينا فيكون بنا هينا، وينزل من عليائه ليكلمنا، ويُفهمنا ما نحن فيه من سيره الطويل، البادئ في زمن لا قرار له، والمنتهى عند حد لا أحد يبلغه، حتى لو خال أو ركبه وهم.
الوقت خمر يملأ الشرايين والأوردة وشعيرات الدم الدقيقة النابضة بالحياة. خمر التخلى والتحلى والتجلى، الذي معه ينقطع الأمس عند الغد، ويغيب الحاضر عما ندركه الآن. فلا شى ء ذهب، ولا أحد يحط قدميه ويتركها، ولا آخر يَهمُّ بالرحيل. عندها فقط يمكننا أن نصطاد الوقت واهمين، نأخذ الدقائق والثوانى ونقبض عليها، ونضعها عند حد التجمد في آلاف الآلاف تحت الصفر، ونقول عندها: توقف العالم كما نريد. فليبق كل شىء عند حاله، الشوق طوق، والفراق نوى، والأسى انفطار، واللقاء بهجة، والموت يسكن فقط في حكايات الغابرين. وقتها لا يضم الشغف جناحيه، ولا تأكل الدهشة زادها، ولا يريد أحد أن يرمى ناظريه بعيدا عن اللوعة والحرقة التي يكابد منها العاشقون دون أن يريدوا لها رحيلا.
الوقت حد بين إدراك لحظة ميلاد ذهبت دون تذكرها، وموت يأتى ولا يمكن تذكره. إنه مسافة بين غفلتين، واحدة أتت دون أن نكون لها في يقظة، والثانية نخاف منها، لكننا نعرف أن إتيانها لا مفر منه، بين ما أتى دون أن يكون لنا فيه صنعة، وما سيأتى دون أن يكون لنا فيه يد. يرتخى الوقت، مادًّا لنا لسانه، ساخرًا منا، ونحن لا نملك له صدًّا ولا ردًّا، وليس في أيدينا أي سيف لنقطع لسانه المزعوم.
الوقت سَقْطُ، هوة بين هامتين تصعدان من جذع الأرض اليابسة إلى عنان السماء، لكنها ترتفع ولا تنزل، وتنزل ولا تعلو، فما إن نلمح نزولها حتى تموت، وما إن نلمح صعودها حتى تموت، وبين موت وموت يكون الوقت، هو أكثر ما يقتل في هذه الدنيا، بل في هذا الكون، دون أن يصرخ أو يستغيث، لأنه مخلوق للتحمل والنسيان، يعرف قدره، لكن المجبورين عليه السابحين فيه لا يعرفون له قدرا، فإما أن تغرّهم الأمانى فيظنون طول المقام، أو تطاردهم المخاوف فتجعلهم يقرون مجبرين بأن النهاية قادمة لا ريب فيها.
الوقت فوت، فما إن تفكر فيما فات، حتى تفقد ما هو بين يديك. ولا ينبو في هذا ذلك الذي يسأل شيخه:
ـ أين الحاضر؟
فيجيبه مطمئنا:
ـ إنه قد مضى.
فإن سأله:
ـ كيف؟
لا يجد من يتلقى عن السؤال إجابة، فكل ما في رأسه يعجز عن أن يكافئ ما سمعه من استفهام، لكنه قد يسقط في مجرى الادعاء، فيقول:
ــ لم نقبض عليه فوجدناه يمر.
والمجيب والسائل يدركان معًا أن ما يتحدثان عنه لا يمكن وصفه، وما لا يمكن وصفه هو فوق طاقة البشر، ولهذا لا يكذب من يرون أن الزمن هو الله، فهو سبحانه ليس كمثله شىء، ولأنه كذلك، فالوقت شىء من قبسه، وهو في هذه الحال أيضا أكبر من أن يقدر الناس على إدراكه على وجه اليقين.
الوقت فوق الذي يمكن وصفه وإدراكه حتى عند الذين يحصونه في وعى وانتباه، فهم ما إن يهمّوا أن يعينوه أو يحددوا له تعريفا وتوصيفا حتى يكون قد راح، وأى تعيين له يكون من الماضى دون أدنى شك. فكل حرف ينطق به العارف والمعرف والمتعارف لا ينطق به اللسان حتى يكون قد ذاب في الهواء.
هذا لكلمة «الوقت» نفسها، بحروفها، واحد تلو الآخر، فما بالنا بمدلولها الذي يسيح في الأفق، بادئًا بما لا بداية له، ومنتهيًا عند ما لا نهاية له.