توقيت القاهرة المحلي 05:04:16 آخر تحديث
  مصر اليوم -

ظلال الجميزة.. «قصة قصيرة»

  مصر اليوم -

ظلال الجميزة «قصة قصيرة»

بقلم - عمار علي حسن

حين أبلغنى باكيًا بأنهم قطعوا الجميزة وبنوا مكانها بيتًا عاليًا من حجر وأسمنت، استيقظت أحزانى، ووجدت نفسى أتضاءل فى مقعدى اللين، حتى عدت الطفل الذى كنت، أقف تحت ظلالها الوارفة، تملؤنى الهيبة والامتنان، لأصطاد وجوه أجدادى التى تتساقط من فوق فروعها العفية إلى حجرى، ثم أمد كفىّ فى الفراغ لتتلقى ثمارها الطرية، أفتح فمى وأرميها وألوكها متلذذا، وأذنى تنسكب فيها زقزقة العصافير الجذلانة، التى تلمس هامتى ثم تطير إلى أعشاشها هناك فى الهامات البعيدة.

سألته بصوت غارق فى الأسى:

ـ ألم يبق منها شىء؟

فأجاب فى توجع:

ـ حفرة ردموها على عجل، ثم رصوا فوقها بلاط يلمع.

ورأيت الشمس وهى تلمع على لحائها العريض الأملس، وأنا أرفع ذراعىّ كى أرى الثمار التى احمر لونها، تطلب الآكلين، فتحط فى ناظرى عصفورة مهيضة الجناح، كانت تحاول أن تثبت مخالبها الدقيقة على فرع دقيق منزلق، حتى اعتدلت واستقرت وبدأت تضرب منقارها فى ثمرة جميز، حمراء طرية، لكنها سقطت منها فوق رأسى. التقطها من على الأرض، ووضعتها على كفى، ورفعتها نحو العصفورة، التى رمت عينيها نحوى، لكنها لم تأت. استدارت، وأعطتنى ذيلها، وانهمكت فى نقر ثمرة أخرى.

كبرت، وسافرت إلى المدينة الكبرى المتوحشة، تعلمت وعملت وتزوجت وأنجبت وتسلل الشيب إلى رأسى، لكنى لم أنس الجميزة أبدًا، بل كانت تكبر فى نفسى، تقتحمنى كلما استعدت أيامى القديمة فى قريتى التى تنكمش بين الزروع والنخيل. أغمض عينى أحيانًا لأرى نفسى هناك بين عيال صغار، كبروا مثلى، لكنى لا أزال أراهم على حالهم القديمة، بجلاليبهم الكالحة التى وسخها كدح الحقول وتراب الشوارع.

ويأتينى صوت أبى:

ـ ولدنا فوجدناها، وسألنا آباءنا فقالوا لنا إن أجدادنا قد وجدوها، ولعبوا تحتها.

وكنت حين أجلس تحتها أتطلع إلى فروعها السمينة، فأرى كل وجوه الراحلين، أجدادى وأجداد كل العيال الذين جاءوا ليلعبوا تحت ظلالها المديدة، ويأكلوا من ثمرها اليانع فتجد بطونهم الخاوية شيئًا تهضمه، لم يكن فى البيوت التى يسكنها العوز.

كانت الوجوه تتوزع فوق الجذع المهيب، والفروع التى تمد أذرعها المتينة نحو الفضاء، لتغطى كل هذه المساحة الهائلة من الأرض البور، وماء البحيرة المعزولة، التى قيل لنا إن النيل قد أنجبها فى وقت الفيضان قبل بناء السد العالى، ثم انحسر عنها، لكنها كانت تذهب إليه فى الليل لتغرف منه عبر مسارب فى الأرض العميقة، جعلتها تظل كل هذا الزمن مملوءة بماء نظيف، وأسماك طازجة، وطيور بديعة الألوان كانت تنظر نحونا من قلب البوص ثم تختفى. وكنا أحيانًا نصنع لها كمائن كى نصطادها، لكن دون جدوى.

فى الظهيرة تفرش الجميزة ظلها الهائل فوق الماء، فنتجمع تحته من حرقة الشمس، ونلهو بألعاب مائية بسيطة اخترعناها، نطلق مراكب البوص، ونتقاذف اليقطين الخفيف، أو يقف بعضنا صانعين شبكة بأجسادهم، ويغطس آخرون ليلعبوا دور الأسماك، وتبدأ المطاردة.

كان بعضنا يخرجون سريعًا، يرتدون ملابسهم على عجل فتشرب الماء الراقد على أجسادهم، ثم يتسلقون الجذع الضخم، ليصلوا إلى الفروع العريضة، فيتخذونها مخادع لقيلولة هانئة.

لم أفعل مثلهم أبدًا، وأصعد فوقها، بل بقيت تحتها، فى الماء أو على اليابسة، أنظر إليها بإجلال كبير.

وكلما كنت أطمئن إلى أننى وحدى الذى بقيت عندها، بعد أن يجن الليل، ويتسرب العيال واحدًا تلو الآخر إلى بيوتهم، أسرع فى ممارسة هواية اصطياد وجوه الأجداد، المعلقة فوق الأغصان، أنادى من سمعت عنه بالاسم، مستعينًا بالأسماء الرباعية والخماسية لزملائى فى المدرسة الابتدائية. وأرى الوجوه تتساقط على مهل، وتحط فى حجر جلبابى، فأسأل أصحابها عن الجميزة فيقولون فى صوت واحد:

ـ لا نعرف من غرسها، لكن أجدادنا أخبرونا أنهم وجدوها على هيئتها هذه.

رجل طاعن فى السن كان يسكن على طرف قريتنا طالما زعم أمام الناس أن عمرها ثلاثة قرون.

وكنا نسأله عمن غرسها فيقول:

ـ جرف النيل وقت الفيضان قطعة من فرع جميزة كانت واقفة فى بلاد بعيدة، ولما انحسر الماء، نبت برعمها هنا، ليصير هذه الشجرة الكبيرة.

اعتبرناها هبة الله لبلدنا. نلعب تحتها، ونتسلى بحكايات فى الليل عن الجنيات التى تقف عارية فوق ناصيات فروعها فى الليالى القمرية. وتأتى البنات بعلب صغيرة من صفيح أو زجاجات ويجرحن جذعها فى هدوء، ثم يجمعن اللبن الذى يتساقط منها لعلاج ما علق بجلودهن من أمراض، ونحمل من ثمرها الوفير إلى بيوتنا فيأكل الجميع، وفى الليل يتجمع تحتها ماعز القرية بعد أن يتركه الفلاحون ليتنفس بعيدًا عن الحظائر الضيقة، فتعود الإناث عشارى من تيوس عفية شبعى من أكل الجميز المتساقط بسخاء.

كنت أراها من بعيد، وأنا عائد إلى قريتى من المدينة بعد غياب، أمد رأسى من نافذة القطار فتبدو لى أجمة داكن خضارها، تحط فى الفضاء الرحب على مرمى البصر. لا أرى البيوت الخفيضة، التى تدلنى على بلدى، لكن أراها هى، فأقول: لا تزال بلدى على قيد الحياة.

وحين أخبرنى صديق الزمن القديم أنهم قد قطعوها، ورموها فى البركة، ورصوا فوقها قشًا، سكبوا فوقه ترابًا وطينًا ليوسعوا أرضية بيت الحجر والأسمنت الذى بنوه، شعرت بأن قريتى قد غارت إلى الأبد، انشقت الأرض وبلعتها وأخذت معها كل وجوه الأجداد التى كانت تحرسنا. ووجدتنى أغوص فى مقعدى وأتصاغر، وأدفن نفسى فى ذكريات الزمن الذى كانت فيه الجميزة تعيش فتجلعنا نعيش تحتها وحولها، مشمولين بوافر ظلها وثمارها الحلوة، وموسيقى عصافيرها التى كانت تجعل الماء يرقص طربًا، فيغمر أجسادنا التى تسبح نحو الطرف الآخر من البركة، ثم تعود إلى ظلالها مطمئنة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ظلال الجميزة «قصة قصيرة» ظلال الجميزة «قصة قصيرة»



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 22:45 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية
  مصر اليوم - زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية

GMT 07:12 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

فينيسيوس الأفضل في العالم لأول مرة وهذا ترتيب ميسي وصلاح

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2019 الإثنين ,09 كانون الأول / ديسمبر

إيهاب جلال يطمئن على فريد شوقي بعد تحسن حالته

GMT 16:26 2019 الأحد ,10 آذار/ مارس

سيدة كل العصور

GMT 06:37 2018 الثلاثاء ,28 آب / أغسطس

تعرف على سعرالمانجو في سوق العبور الثلاثاء

GMT 01:04 2018 الثلاثاء ,01 أيار / مايو

وداع أندريس إنييستا يخيم على احتفالات برشلونة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon