تبين أى قراءة لما كتبه علماء السياسة والاجتماع والفلاسفة والمفكرون فى الغرب عن الديمقراطية أنها تتعرض لمراجعات ومساءلات لا تتوقف، ذلك لأنهم يدركون جيدًا أنها ليست نظام حكم مثالى صنع «المدينة الفاضلة» على الأرض، لكنه هو الأفضل حتى الآن. وتكفى قدرة هؤلاء على انتقاد النظام الديمقراطى بحرية بما يطوره، ويرمم شروخه، ويعززه.
ولعل ما يجرى فى الولايات المتحدة الأمريكية من تداعيات للانتخابات الرئاسية الأخيرة يبرهن على أن هذه المراجعات ضرورية لأن الأزمة التى تمر بها الديمقراطية حاليًا تختلف إلى حد بعيد عن تلك التى مرت بها فى النصف الأول من القرن الماضى. وقد لمس د. وحيد عبدالمجيد هذه المسألة فى كتابه الجديد «ديمقراطية القرن الحادى والعشرين»، وخلص إلى نتيجة غاية فى الأهمية تقول بوضوح إن الأزمة الفائتة جاءت من خارج النظام الديمقراطى، مع صعود نجم الفاشية والنازية وطرح الشيوعية المؤمنة بالطريق الواحد والحزب الأوحد، أما الراهنة فهى تأتى من قلب الديمقراطية نفسها.
ويعزو «عبدالمجيد» هذا العيب إلى جمود شاب النظم السياسية ذات الديمقراطيات الراسخة بفعل تراكمات عدة، أدت فى خاتمة المطاف إلى تمكين نخب سياسية واقتصادية من الإمساك بزمام الأمور، واحتكار الثروة وإنتاج القيم بما قاد إلى تفريغ الديمقراطية من مضمونها الحقيقى، وهى مسألة فصلت فيها نظرية النخبة التى تم رفعها فى وجه نظرية الطبقة.
فالديمقراطية التمثيلية وُجدت فى الغرب مع نهاية القرن الثامن عشر، وأخذت تنمو وتتطور وترسخ على مدار قرنين من الزمن، وانتقل صداها وتأثيرها إلى دول غير غربية، وكانت تتسع رقعتها، حتى ارتفع صوت الحديث عن موجتين ثالثة ورابعة منها، ولاسيما مع انهيار الاتحاد السوفيتى، بينما كان هناك داء يسرى فى أوصال مركز الديمقراطية نفسه، مع اتساع الفجوة بين الشعارات والبرامج والتطبيقات، وتصدع الآمال التى علقها الناس فى أعناق مَن انتخبوهم دوريًّا ليجلسوا فى مقاعد مؤسسات تشرع وتراقب وتسهم فى صناعة القرار حين لا يتصرف هؤلاء طيلة الوقت لصالح مَن انتخبوهم.
وهنا يُثار تساؤل: هل معنى هذا انهيار النظم الديمقراطية وعودة الدول إلى ما كانت عليه فى القرن السابع عشر وما قبله؟، أو بعبارة أخرى: هل سنكون بالضرورة أمام ما تصورته دوريس ليسنج، الحاصلة على جائزة نوبل فى الآداب، من أن العالم يعود سريعًا إلى الغابة؟.
هنا يسعفنا الكتاب بواحدة من الإجابات، تبين أن الديمقراطية التمثيلية سيتم تطعيمها بلقاح التشارك والمراجعة وسد الفجوة بين التعبير والتدبير، منطلقًا من أن «الأزمة تكمن فى نظام التمثيل السياسى وليس فى الديمقراطية نفسها»، ولتجاوزها يضع عدة آليات هى:
1ـ تنظيم استفتاءات بشكل متكرر على قرارات تنفيذية، وتشريعات أساسية تمس قطاعات واسعة من المواطنين، وذلك قبل مناقشة البرلمان لها، وصدورها بأيدى الحكومة.
2ـ تمكين الناس من سحب الثقة من أى مسؤول تنفيذى أو تشريعى إذا ثبت تراخيه أو فساده أو خروجه على المصلحة العامة، وذلك عبر اقتراع يجرى لهذا السبب، وعدم انتظار موعد الانتخابات الدورية أو التعديلات الوزارية والتغييرات فى الإدارة العليا.
3- إجراء حوار سياسى واجتماعى بما يمكن الناس من المشاركة فى إدارة الشأن العام.
4 ـ ضمان وجود شفافية تامة، لا تغفو ولا تغفل، بشأن الإنفاق العام، ما يعنى تمكين الناس من الرقابة على المال العام، ومتابعة إنفاقه فى أوجه تخدم مصالح الشعب.
أعتقد أن هذه الأفكار قد يتم تداولها فى الولايات المتحدة.
(2)
تموت بعض الأسرار برحيل الذين حفظوها فى رؤوسهم فلم تبرحها. بعضها لا يطيق أصحابها عليها صبرًا فيهمسون بها لصديق أو صاحب.
فى الغالب فإن السر لم يعد سرًا إن صار بين اثنين. هناك أسرار تُهتك لا بما ينطقه الذين يكتمونها، إنما بسكناتهم وحركاتهم التى يحصيها من يراقبونهم ويتعقبونهم بعناية.
(3)
نحاول أن ننسى أيامًا عصيبة داهمنا فيها كورونا، لكن ها هى قد ذكرتنى بالوباء وأيامه د. نهلة أحمد محمد خليل، مدرس النقد الأدبى بكلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بجامعة الإسكندرية، عبر دراسة لها نشرتها بمجلة «كليات اللغة العربية والشُّعب المناظرة لها- جامعة الأزهر»، عن «البنية الفنية فى مقالات عمار على حسن حول كورونا»، أكدت فيها أن الكاتب يعرض أفكاره بأسلوب أدبى بليغ عبر السرد والوصف واستعمال الصورة وكثير من التركيبات المجازية، مستفيدًا من خبرته كأديب، ودون أن يفقد تركيزه فى تبيان فكرته أو قول رأيه حول قضية كورونا التى ألهبت عاطفته، وشحذت عقله كى يتفاعل معها على نحو مختلف.
(4)
كم أسعدنى الذى كتبه الناقد العراقى على حسن الفواز فى صحيفة «القدس العربى»، التى تصدر فى لندن، عن روايتى «صاحب السر»، التى صدرت طبعتها الأولى عام 2021. يقول إن الرواية تدعو إلى محبة الحياة رغم أنها تعالج موضوعًا كابوسيًا عن رعب الموت، لا يخلو هنا من معانٍ فلسفية واجتماعية وسياسية، استقاها الكاتب من واقع ينشغل به ويسعى إلى تغييره.