وأنا جالس فوق بقعة أرض محتلة، رفعت بصرى إلى الوهج والنور الغامر، وسألته:
- لماذا لا نسمع يومًا عن الشمس المحتلة؟
طاغية
الطاغية الذى ملأ الأرض نارًا ودمًا، لم يجد من يلوذ به فى لحظة انكساره سوى كتف امرأة يعشقها، وضع رأسه عليها وبكى بحرقة وهو يكتم نشيجه الحار حتى لا يصل إلى أسماع مطارديه.
غمست أصابعها الناعمة فى شعره المسترسل، والعجب يملؤها، إذ لم تكن قد رأته هكذا أبدًا، بل تخيلت أنه إذا بكى فسيسقط من عينيه حصى مسنون وجمر صاف.
قلبت وجهه الخشن فرأته طفلًا لوّعه ضياع لعبته، وتذكرت كيف كان يلهو بمن حكمهم سنين قبل أن يخلى ملكه وراء ظهره.
كان بالفعل طفلًا، وتمنت هى لو أن هذه الهزيمة قد جاءت قبل سنين حتى تلهو بصغيرها زمنًا طويلًا.
شاحنة
أوقفنى السائق تحت الشجرة العالية وارفة الظلال لأستريح بعد يوم مضن. حملت أطنانًا من فواكه لذيذة لا أعرف طعمها. صدمت سيارة تقل أسرة سعيدة، ولم أتوقف لأودع موتاهم، وأضمد جراح مصابيهم الغارقين فى الدم. أصابتنى حمى للضغط المتواصل على بدال الوقود. كلَّت عيناى من ظلمة الطريق. وخزت أقدامى حصوات مسنونة ومسامير صدئة. دهست كلبًا كان يزحف لتنجو بقاياه. تعبت من الدخان الأزرق الذى ينفثه المتحكم فى مقودى. تألمت غير مرة من طعنات ماسورة الوقود فى جرحى المزمن.
وكان علىّ أن أنفض متاعبى عن رأسى وأنا أستعد لمغادرة الظلال إلى شمس الله الموقدة، التى تُغرق طريقا يبدو أمامى بلا نهاية.
تثاؤب
فتح فمه عن آخره فى تثاؤب طويل، فخرج من بين شدقيه كائن غريب، مغمض العينين، وقال له، وهو يتقدم نحوه فى تثاقل:
- انهض لتلحق ما فاتك.
نظر إليه فى فتور وقال:
- نهبت الأرض ولم أصل إلى شىء.
فضحك وقال:
- أييأس صاحب هذا الجسد القوى من مواصلة الطريق؟
رد فى هدوء:
- جسد فائر وإرادة خائرة.
هرول الكائن وشمر عن ساقيه استعدادا للعودة من حيث أتى وهو يقول:
- عيب على من يعرف عيبه ولا يغادره.
احتلال
وأنا جالس فوق بقعة أرض محتلة، رفعت بصرى إلى الوهج والنور الغامر، وسألته:
- لماذا لا نسمع يومًا عن الشمس المحتلة؟
ورأيت طائرات حربية تمرق فى الفضاء إلى أعلى، ودبابات تطحن جنازيرها الهواء، وناقلات جند تصعد على عجل، وأنساقًا متتابعة من جنود لا حصر لهم يصوبون بنادقهم فى وجه الفراغ، ويحفرون خنادقهم فى قطع السحاب المتتابعة، ثم يفارقونها ويغيبون فى الأزرق الفسيح.
لم تمض سوى ساعات حتى رأيت جمرات ضخمة تتساقط من جوف السماء، كانت تتوهج أمامى، لكنها قبل أن تصل إلى البقعة التى أجلس عليها، اختفت تمامًا، وبدا قرص النار والنور أقرب إلى رأسى من أى وقت مضى.
جبل
يهطل المطر غزيرا على الجبل، فتبتل الطبقة الرقيقة من الرمل والصخر الهش لتنبت الورود والأحراش والأشجار، ليصير الأفق أخضر بديعًا.
قطعة وحيدة مائلة على جبهة الجبل، يكنس الماء ما عليها من تراب، ويأخذ معه أى بذور حملتها الريح، فتظل بقعة صلعاء صفراء.
حين جاء الغرباء وسكنوا السفح، وبنوا بيوتهم الخفيضة المتناسقة، ظلت أبصارهم وأفئدتهم وأذهانهم معلقة بالبساط الأخضر البديع زمنا.
بمرور الوقت اعتادوا المنظر، وانجذبت عيونهم نحو البقعة الجرداء، فهرعوا إليها، وجلسوا تحتها يلتقطون الصور، ويحكون لأولادهم الذين كبروا أن هذا المكان كان جبلا أمرد قبل أن تهتدى إليه الريح المحملة بماء غزير.
أفق
نام السحاب على هامة الجبل المكسو بالثلج، فاختلط البياض، وضاع الأفق.
استيقظ اليمام فلم يجد السماء. طار إلى أعلى فاصطدم بالسحب، والتوت مناقيره، وراح ينوح فى حسرة، لكن الصخر والماء ازدادا التحامًا وتجهمًا.
جاء عصفور صغير، واندس وسط اليمام متطلعًا إلى الأفق المحجوب. اقترب من هامة الجبل ورقص، وزقزق بلحن يضج بالفرح، فانثقب السحاب، وبانت دائرة زرقاء لا تصلح لمرور يمامة واحدة، لكنها كانت كافية كى يمقرق العصفور نحو الفضاء الرحب.
حرب
وقف أمام عدسات جاء حاملوها من كل محطات التلفزة. تنحنح ورمق بطرفى عينيه النجوم والنسور التى تلمع على كتفيه، وأطلق صوتًا فخيمًا من أعماق صدره وأطراف حنجرته:
- نجحت قواتنا فى تدمير كل الأهداف التى حددتها على أرض العدو.
وسأله صحفى وقف فى منتصف الجالسين:
- إذا كان الأمر كذلك، فلمَ لا تتوقف الحرب؟
قهقه حتى اهتز كتفاه، ورد فى ثقة:
- العدو لم يعلن استسلامه بعد.
ثم عاد إلى القهقهة من جديد، وقال:
- ونحن فقط من يحدد ما إذا كان قد استسلم أم يتلاعب؟
غزو
رأيت خيولًا تخرج من النهر، عليها فرسان يشرعون سيوفهم فى وجه الشمس، وعيونهم تقدح شررًا. كانوا كلما تقدموا يموت الزرع تحت السنابك، ويصير الأخضر أصفر، ويختفى الورد وتظهر الأحراش.
زعيم
أخبرنى الرجل الطاعن فى السن أن الزعيم الذى قاد الفقراء ضد الغزاة كان يسلك هذه الدروب الوعرة بين الجبال المتوارية خلف الأشجار الداغلة والنباتات البرية.
نظر بعينين كليلتين، وتنهد فى حرقة وقال:
- كنت صغيرا يومها ورأيته فى قافلة حول بعض رجاله، ومتاعه على بغل، وأوراق وصاياه محمولة على ظهر ستين بغلا، ورأيت الغزاة يحاصرونه، وراية بيضاء رفعت بين الخضار الممتد، وملأت عينى فسقطت دموعى.
مشى العجوز قليلًا، وعاد يقول:
- تكاثروا عليه وهزموه، لكن كل من قرأ وصاياه تعلم كيف ينتصر.
نقلًا عن المصري اليوم القاهرية