توقيت القاهرة المحلي 14:21:48 آخر تحديث
  مصر اليوم -

«الكذب السياسى».. ألوانه وخطورته على المجتمع والدولة

  مصر اليوم -

«الكذب السياسى» ألوانه وخطورته على المجتمع والدولة

بقلم - عمار علي حسن

يحمل الكذب معانى التقول والتضليل والخداع والإيهام والغش والمخاتلة والنصب والتزوير والتزييف والمراء والدهاء والحيلة والإيقاع فى الأحابيل وخفاء الأسرار والغدر والخيانة والمكر والمراوغة والمناورة إلى جانب تبرير فعل شائن، أو تلميع صورة، أو إخفاء فضيحة. والكذب هو نوع من الخداع، ولكن ليس كل خداع هو بالضرورة كذبا، فللخديعة نوعان آخران، الإخفاء والتلفيق، ولا يشترطان أن تصحبهما عبارة كاذبة.

ويبدو الكذب السياسى ابن السلطة، التى عندما تظهر بين الناس تقسمهم إلى حاكم ومحكوم مما يعطى فرصة للأكاذيب، ظاهرة ومقنعة، كى تتسرب عفية بين شقوق ومسام هذه القسمة. وقد جعلت العلاقة العضوية بين الكذب والسياسة فلاسفة وكتاب دواوين ومؤرخين ومستشارين وقضاة يعنون بتأليف الكتب والرسائل فى فنون الكذب السياسى فى مختلف الثقافات عبر العصور، حتى صار للكذب مراحل تطورية، يقطعها وهو يسير متبخترا فى ركاب السياسة، حتى كاد يصير مبحثا مستقلا تدور حوله مفاهيم وإشكالات ونظريات ومناقشات، بل صار جزءا من صميم العمل السياسى، سواء كان فى ظل نظام ديمقراطى أو استبدادى.

ويجد الكثير من السياسيين مبررات لممارسة الكذب وهم مستريحو الضمير، مستندين إلى خلفيات فكرية ونظرية، أجاد بها فلاسفة كثر، كأن يتحدث أفلاطون عن «الكذب النبيل»، ويقول فولتير «الكذب له قيمته»، فيما يعتقد أتباع ليو شتراوس من المحافظين الجدد أن الجماهير لا يمكن أن تساس وتحكم إلا بالكذب، ويُفرط ميكافيللى فى الكذب عبر كتابه الشهير «الأمير» من منطلق اعتقاده فى أن السياسى لا ينتصر فقط بالقوة ولكن أيضا بالحيلة والخديعة، فيما لاحظ مؤرخو الكذب السياسى المعاصرون أمثال كوبرى وأرندت ودريدا أن الفعل السياسى لم يعد اليوم مرتبطا أساسا بالعقل، وبالتالى بالحقيقة، بل بالرأى الذى يقوم على الخيال، ومن ثم صارت السياسية هى أكثر شيئا كذبا.

فالكذب يبقى هو أكثر ألوان المبالغة قربا من فضاء المجاز، بل هناك من يقرب بينهما إلى حد عميق ليرى أن طائف الكذب قد طاف بالمجاز فى البلاغة العربية، ولا فرق بينهما سوى بالتأويل، فى ظل استناد الكلام إلى الاستعارات والمجازات والتشبيهات التى تنأى بطبيعتها عن الواقعيات والحقائق، مما يسهل تسرب الكذب إلى المسافة الفاصلة بين الاثتين.

ويستعمل السياسى أدوات الخطابة والجدل والبلاغة لقلب الوقائع وإحداث التغيير فى النفوس، لتصير مهمة السياسى الكاذب هى تحويل الاستعارة إلى حقيقة عبر تجريدها من واقعيتها.

ورغم أن الكذب هو طريقة للسطو على الحقيقة وإلغائها، أو هو حقيقة ذاتية بديلا عن الحقيقة الموضوعية فإن محترفى الكذب من السياسيين طالما يعتبرون أن من حقهم الكذب لأن مصلحة الدولة والشعب تقتضى هذا من وجهة نظرهم، مدفوعين فى هذا بعدة اعتبارات براجماتية، رصدها محمد المصباحى فى دراسته المهمة: «هل يمكن الكلام عن الحق فى الكذب فى المجال السياسى»، وأولها أن السياسى كى يكسب الناس إلى جانبه فعليه أن يحرف المعطيات والوقائع والحقائق، ويزيف الأخبار والمعلومات بتضخيمها أو نفيها أو التقليل من شأنها. وثانيها أن بعض الساسة يؤمنون بأن التغيير يتطلب أحيانا تزييف الوقائع أى ممارسة الكذب.

وثالثها تخص القادة الذين يعتقدون أحيانا أن عليهم مسؤولية أخلاقية تدفعهم إلى الكذب بغية حماية بلادهم، وبذا يكذبون أحيانا فى قضايا السياسة الخارجية عن قصد وتعمد، حيث يقولون أو يوحون بأمور يعلمون أنها غير صحيحة، مطمئنين إلى أن شعوبهم عادة لن تعاقبهم بسبب خداعهم، إلا إذا أدى ذلك الفعل إلى نتائج وخيمة.

ورابعها ترتبط بأولئك الذين يرون أن السياسة هى أقرب ما تكون إلى الشعر، فى نزوعها إلى الخطابة، وكما أن أعذب الشعر أكذبه فإن أعذب السياسة أكذبها. وخامسها هو أن أغلب الساسة يجدون دوما فى أسماء الكذب وأفعاله ما يبررها بدعوى أنه من دون المفاهيم الخاطئة والصور الخيالية والأوهام تبدو الحياة مستحيلة ومقززة، بل يصبح العلم نفسه غير قابل للتصور من دون أساطير واستعارات. وسادسها تتعلق بمن يقتنعون بأنه لا مفر أمام السياسى من الكذب مهما علت همته الأخلاقية، لاسيما إذا كان الجمهور يتوقع منه أن يفعل هذا ليستدرجه إلى أوهامه وأحلامه. وسابعها قد يعود إلى نفسية الحاكم، التى تجعله دوما ينكر حقيقة موجودة أو يحتقرها ويفر من قسوتها، لأنه يراها تهدد مصالحه ووجوده.

ولا يعنى ما سبق ضرورة المصالحة بين السياسة والكذب، ولا يمكن تفسير الكذب بالغفلة والنسيان واللاوعى وعدم الانتباه كما فعل نيتشة وفرويد وكانط بشكل ما، إنما يجب أن يتوافر القصد فى الكذب كى يكون كذلك، مثلما تحدث سارتر عن سوء النية، فالكاذب السياسى يعرف الحقيقة، إلا أن يضعها جانبا، ويطلق معلومات مضللة تسمح له بتحقيق أغراضه، بالكذب على الجسم السياسى للمجتمع بأسره حسبما يرى كانط نفسه.

وانتشار الكذب فى دولة ما قد يدمر كيانها، ويضعف من استقرارها وأمنها الداخلى، مهما تم التذرع بأنه كذب نبيل أو أبيض أو إيثارى. وحتى لو كان الساسة يرون أن الكذب على العالم الخارجى مباح ومتاح فعليهم أن يدركوا أن هذا النوع من الكذب له ارتداد ضار على الداخل مع مرور الوقت.

نقلا عن المصري اليوم 

المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«الكذب السياسى» ألوانه وخطورته على المجتمع والدولة «الكذب السياسى» ألوانه وخطورته على المجتمع والدولة



GMT 20:22 2023 الخميس ,19 تشرين الأول / أكتوبر

مليونية ضد التهجير

GMT 03:11 2023 الأربعاء ,21 حزيران / يونيو

الخالدون أم العظماء

GMT 04:43 2023 الإثنين ,19 حزيران / يونيو

كل سنة وأنت طيب يا بابا

GMT 04:15 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

الزعامة والعقاب... في وستمنستر

GMT 03:32 2023 الأحد ,18 حزيران / يونيو

حدوتة مصرية فى «جدة»

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 22:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

بشرى تكشف عن أمنيتها للعام الجديد
  مصر اليوم - بشرى تكشف عن أمنيتها للعام الجديد

GMT 10:34 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

الوجهات السياحية الأكثر زيارة خلال عام 2024

GMT 10:38 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات أنيقة وراقية لكيت ميدلتون باللون الأحمر

GMT 10:52 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

بيلا حديد في إطلالات عصرية وجذّابة بالدينم

GMT 09:38 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

نصائح سهلة للتخلص من الدهون خلال فصل الشتاء

GMT 21:45 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

فجر السعيد تفتح النار على نهى نبيل بعد لقائها مع نوال

GMT 08:46 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

مبابي يكشف سبب منعه من الاستمرار مع سان جيرمان

GMT 20:43 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

الأمير هاري يتحدث عن وراثة أبنائه جين الشعر الأحمر

GMT 20:11 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

تكريم توم كروز بأعلى وسام مدني من البحرية الأميركية

GMT 09:56 2021 الجمعة ,01 كانون الثاني / يناير

أعد النظر في طريقة تعاطيك مع الزملاء في العمل

GMT 12:18 2016 الإثنين ,12 كانون الأول / ديسمبر

الروح والحب والإخلاص " ربنا يسعدكم "

GMT 23:59 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

اتفاق مبدئي على إعادة تشكيل السلطة التنفيذية في ليبيا

GMT 18:11 2024 الخميس ,05 أيلول / سبتمبر

3 تحديات تنتظر الزمالك قبل غلق الميركاتو الصيفي

GMT 07:33 2019 الثلاثاء ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

"سيسيه يؤكد رفضت عروضا من أجل البقاء مع "الاتحاد

GMT 05:59 2024 الأحد ,14 تموز / يوليو

محمد النني يقترب من الدوري السعودي
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon