ليسوا هم الذين يعرفهم الناس، لأنهم قد رأوهم وسمعوهم وألفوهم في كل الأيام التي خلت، لكنهم أولئك الذين يقفون على أبواب النهاية خلف مكاتبهم الصدئة والدهشة تملأهم مما آلت إليه حالهم. خمسة رجال هم، يقول أحدهم وهو يدقق النظر في مكتوب آتاهم يطلب منهم تجهيز أوراق إحالتهم إلى التقاعد:
مرت السنون في غفلة منا.
ينظرون إليه، ويتعجبون من قوله، رافعين وجوههم إلى اللوحات المستقرة على حوائط المكتب التي ألفوها منذ زمن طويل، حتى ظنوا أنها خالدة، وقالوا له:
ـ لا، أنت تكذب.
قهقه، وقال لهم:
ـ ليُخرج كل منكم بطاقة الرقم القومى وينظر فيها جيدًا ليعرف كم عمره.
امتثلوا لما أراد، لكنهم رفعوا وجوههم من فوق البطاقات التي امتثلت على أكفهم، وقالوا له:
ـ لا يمكن.
قهقه، وقال:
ـ هذه تواريخ رسمية لا مكان لتكذيبها.
وقال أحدهم:
ـ نسيتم أنكم خريجو دفعة واحدة في كلية التجارة، وأن تواريخ ميلادكم متقاربة.
طوحوا أكفهم في وجهه رافضين ما سمعوه، وقال أحدهم:
ـ تحدث عن نفسك، فأنا لا يزال شعر رأسى أسود.
قهقه وقال له:
ـ لو كان الأمر بلون الشعر لظل رئيسك في العمل فوق كرسيه سنوات أطول مما تظن، فهو ماهر في الصباغة.
تمنى في هذه اللحظة لو كان في الحجرة الوسيعة ذات الأثاث البسيط البالى مرآة، ينظرون جميعا فيها إلى رؤوسهم قبل أن يردوا عليه، لكنهم اكتفوا بالنظر إليه في غضب، وقالوا في صوت واحد، وكأنهم قد اتفقوا عليه من قبل:
ـ ليس في المرايا أي جواب.
ورغم أنهم أمنوا طيلة حياتهم بتلك الورقة الأخيرة التي يحط في أسفلها النسر المغموس بحبر أزرق، فإنهم هذه المرة لم يروه أبدا. وقال الذي كانوا يظنون أنه كبيرهم محملقا فيهم من خلف أكبر مكتب في الغرفة:
ـ لم نسمع أبدا أن جميع موظفى مكتب قد أحيلوا إلى التقاعد في وقت واحد.
قهقه الأول وقال:
ـ على مدار ستة وثلاثين عاما لم يعتقد أي منا أننا محشورون هنا إلى مصير واحد. تخرجنا في كليات مختلفة، وتم تعييننا في المؤسسة الكبرى بفروعها، وها نحن اليوم فقط نكتشف أن ما يفصل بين تواريخ ميلادنا ضئيل. كلنا موزعون على ثلاثة أيام رغم اختلاف أمهاتنا، والأماكن التي رأينا فيها الدنيا.
انتبه الثانى إلى ما سمعه، وقال:
ـ غريبة، كنا متقاربين هكذا، بينما قضينا العمر هنا في صراع.
رد الثالث:
ـ تقاتلنا دون سلاح على من يجلس فينا على أكبر وأنظف مكتب في هذه الحجرة، ثم الانفلات منها إلى غيرها، فسيحة نظيفة يتوسطها مكتب أنيق، وبعضنا اعتقد أن بوسعه أن يصل إلى أعلى كرسى في هذه المؤسسة.
قال الرابع:
ـ كانت أوهامًا.
قهقهوا في صوت واحد وكأنهم اتفقوا على هذه الضحكة الطويلة التي أعقبتها دموع رقرقت في عينيّ كل منهم، ليرى من خلالها ما يأتى وهو يرتجف في غبش صنعته قطرة الماء الساخنة الرجراجة.
الأول رأى نفسه جالسا على مقهى بسيط قريب من بيته يروض الوقت. الثانى كان جالسا في صالون بيته يدفن رأسه في المسند اللين ليختبئ. الثالث عرف كيف يقف في المطبخ ساعات زاعمًا أنه طباخ ماهر. الرابع عاد إلى قريته ليزرع قطعة أرض صغيرة اعتاد تأجيرها طوال أيام الوظيفة.
راح الخامس يقلب التلفزيون بحثا عن أي قناة أطفال. وجدها أخيرا، غارقة في ألوان بديعة، وحركات عفوية، وكلمات مرتبة تتهادى على إيقاع موسيقى، وتتوالى صور حيوانات وطيور وأسماك وقطع سحب سابحة في سماء وسيعة، لا تلبث أن تذوب في شعاع شمس عفية، تحط على شواشى نخل باسق، وزروع يانعة.
حملق طويلًا في الصور التي تتوالى كأنها تركب قطارا يسرع نحو أمل وجمال بعيدين، ولمَّا اطمأن إلى أنه وحيد في البيت بعد خروج زوجته إلى السوق، تخفف من الروب القديم البالى، ومن الشبشب الجلد، وراح يرقص فوق السجاد القديم، ومنه البلاط البارد، ومنهما إلى الردهة المؤدية إلى نافذة تطل على مدرسة ابتدائى. وجد نفسه ساعة الفسحة التي تتوسط اليوم الدراسى ينظر إليهم طويلا، ثم يتقافز مثلهم، هم في الفناء الفسيح، وهو بين جدران تصده.