توقيت القاهرة المحلي 06:24:47 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الخروج إلى الحياة

  مصر اليوم -

الخروج إلى الحياة

بقلم - عمار علي حسن

ليسوا هم الذين يعرفهم الناس، لأنهم قد رأوهم وسمعوهم وألفوهم في كل الأيام التي خلت، لكنهم أولئك الذين يقفون على أبواب النهاية خلف مكاتبهم الصدئة والدهشة تملأهم مما آلت إليه حالهم. خمسة رجال هم، يقول أحدهم وهو يدقق النظر في مكتوب آتاهم يطلب منهم تجهيز أوراق إحالتهم إلى التقاعد:

مرت السنون في غفلة منا.

ينظرون إليه، ويتعجبون من قوله، رافعين وجوههم إلى اللوحات المستقرة على حوائط المكتب التي ألفوها منذ زمن طويل، حتى ظنوا أنها خالدة، وقالوا له:

ـ لا، أنت تكذب.

قهقه، وقال لهم:

ـ ليُخرج كل منكم بطاقة الرقم القومى وينظر فيها جيدًا ليعرف كم عمره.

امتثلوا لما أراد، لكنهم رفعوا وجوههم من فوق البطاقات التي امتثلت على أكفهم، وقالوا له:

ـ لا يمكن.

قهقه، وقال:

ـ هذه تواريخ رسمية لا مكان لتكذيبها.

وقال أحدهم:

ـ نسيتم أنكم خريجو دفعة واحدة في كلية التجارة، وأن تواريخ ميلادكم متقاربة.

طوحوا أكفهم في وجهه رافضين ما سمعوه، وقال أحدهم:

ـ تحدث عن نفسك، فأنا لا يزال شعر رأسى أسود.

قهقه وقال له:

ـ لو كان الأمر بلون الشعر لظل رئيسك في العمل فوق كرسيه سنوات أطول مما تظن، فهو ماهر في الصباغة.

تمنى في هذه اللحظة لو كان في الحجرة الوسيعة ذات الأثاث البسيط البالى مرآة، ينظرون جميعا فيها إلى رؤوسهم قبل أن يردوا عليه، لكنهم اكتفوا بالنظر إليه في غضب، وقالوا في صوت واحد، وكأنهم قد اتفقوا عليه من قبل:

ـ ليس في المرايا أي جواب.

ورغم أنهم أمنوا طيلة حياتهم بتلك الورقة الأخيرة التي يحط في أسفلها النسر المغموس بحبر أزرق، فإنهم هذه المرة لم يروه أبدا. وقال الذي كانوا يظنون أنه كبيرهم محملقا فيهم من خلف أكبر مكتب في الغرفة:

ـ لم نسمع أبدا أن جميع موظفى مكتب قد أحيلوا إلى التقاعد في وقت واحد.

قهقه الأول وقال:

ـ على مدار ستة وثلاثين عاما لم يعتقد أي منا أننا محشورون هنا إلى مصير واحد. تخرجنا في كليات مختلفة، وتم تعييننا في المؤسسة الكبرى بفروعها، وها نحن اليوم فقط نكتشف أن ما يفصل بين تواريخ ميلادنا ضئيل. كلنا موزعون على ثلاثة أيام رغم اختلاف أمهاتنا، والأماكن التي رأينا فيها الدنيا.

انتبه الثانى إلى ما سمعه، وقال:

ـ غريبة، كنا متقاربين هكذا، بينما قضينا العمر هنا في صراع.

رد الثالث:

ـ تقاتلنا دون سلاح على من يجلس فينا على أكبر وأنظف مكتب في هذه الحجرة، ثم الانفلات منها إلى غيرها، فسيحة نظيفة يتوسطها مكتب أنيق، وبعضنا اعتقد أن بوسعه أن يصل إلى أعلى كرسى في هذه المؤسسة.

قال الرابع:

ـ كانت أوهامًا.

قهقهوا في صوت واحد وكأنهم اتفقوا على هذه الضحكة الطويلة التي أعقبتها دموع رقرقت في عينيّ كل منهم، ليرى من خلالها ما يأتى وهو يرتجف في غبش صنعته قطرة الماء الساخنة الرجراجة.

الأول رأى نفسه جالسا على مقهى بسيط قريب من بيته يروض الوقت. الثانى كان جالسا في صالون بيته يدفن رأسه في المسند اللين ليختبئ. الثالث عرف كيف يقف في المطبخ ساعات زاعمًا أنه طباخ ماهر. الرابع عاد إلى قريته ليزرع قطعة أرض صغيرة اعتاد تأجيرها طوال أيام الوظيفة.

راح الخامس يقلب التلفزيون بحثا عن أي قناة أطفال. وجدها أخيرا، غارقة في ألوان بديعة، وحركات عفوية، وكلمات مرتبة تتهادى على إيقاع موسيقى، وتتوالى صور حيوانات وطيور وأسماك وقطع سحب سابحة في سماء وسيعة، لا تلبث أن تذوب في شعاع شمس عفية، تحط على شواشى نخل باسق، وزروع يانعة.

حملق طويلًا في الصور التي تتوالى كأنها تركب قطارا يسرع نحو أمل وجمال بعيدين، ولمَّا اطمأن إلى أنه وحيد في البيت بعد خروج زوجته إلى السوق، تخفف من الروب القديم البالى، ومن الشبشب الجلد، وراح يرقص فوق السجاد القديم، ومنه البلاط البارد، ومنهما إلى الردهة المؤدية إلى نافذة تطل على مدرسة ابتدائى. وجد نفسه ساعة الفسحة التي تتوسط اليوم الدراسى ينظر إليهم طويلا، ثم يتقافز مثلهم، هم في الفناء الفسيح، وهو بين جدران تصده.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الخروج إلى الحياة الخروج إلى الحياة



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 12:40 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

محمد حيدر مسؤول العمليات في حزب الله هدف عملية بيروت
  مصر اليوم - محمد حيدر مسؤول العمليات في حزب الله هدف عملية بيروت

GMT 17:30 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة
  مصر اليوم - ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة

GMT 16:28 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته
  مصر اليوم - نائبة الرئيس الفلبيني تتفق مع قاتل مأجور لاغتياله وزوجته

GMT 01:58 2021 الأربعاء ,01 أيلول / سبتمبر

البورصة المصرية تربح 31.4 مليار جنيه خلال شهر أغسطس

GMT 23:21 2020 الأربعاء ,26 آب / أغسطس

بورصة بيروت تغلق على تحسّن بنسبة 0.37%

GMT 13:08 2020 الإثنين ,24 شباط / فبراير

7 قواعد للسعادة على طريقة زينة تعرف عليهم

GMT 01:27 2018 الإثنين ,26 شباط / فبراير

باحثون يؤكدون تقلص عيون العناكب الذكور بنسبة 25%

GMT 15:46 2018 الأربعاء ,07 شباط / فبراير

كارل هاينز رومينيجه يشيد بسياسة هاينكس

GMT 12:17 2018 الجمعة ,02 شباط / فبراير

Mikyajy تطلق أحمر شفاه لعاشقات الموضة والتفرد

GMT 16:48 2018 الخميس ,25 كانون الثاني / يناير

المقاصة يسعى لاستعادة الانتصارات أمام الانتاج

GMT 14:39 2018 الإثنين ,22 كانون الثاني / يناير

"ثقافة أبوقرقاص" تنظم فعاليات في قرية الكرم وقصر الإبداع

GMT 01:22 2018 الإثنين ,01 كانون الثاني / يناير

العسيلي والليثي يطرحان أغنيتهما الجديدة "خاينة"

GMT 19:11 2015 الإثنين ,12 تشرين الأول / أكتوبر

مركز "محمود مختار" يستضيف معرض الفنان وليد ياسين

GMT 03:33 2017 الخميس ,09 تشرين الثاني / نوفمبر

دار VIDA للمجوهرات تطرح مجموعة جديدة لامرأة الأحلام
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon