بقلم - عمار علي حسن
صنعت النخبة الثقافية من الموروث الشعبى زادًا جديدًا لها، ضخّتْه فى أوردتها المتيبسة أو المشرفة على التكلس، فمنحتها الحياة والحيوية، أو وظفت هذا الموروث فى خدمة الأيديولوجية أحيانًا، فحولته من نتاج عفوى مفعم بالمعانى الحرة، والقدرة على التحايل والتجاوز والتدافع إلى جزء من الدعاية الصاخبة، التى تصم الآذان، وبعضها أو أغلبها ينتهك المعانى التى عليها أن تثبت فى وجه التغيرات الاجتماعية والسياسية المفروضة من أعلى، والتى تصنعها ظروف قاهرة، ليس للطبقة الشعبية أى دور فى اختيارها.
لقد أثر هذا سلبًا على مضامين الموروث الشعبى، التى ظلت قرونًا يتم تداولها، وتكون الإضافة إليها نابتة منها، ولا يدخل عليها شىء غريب. وهذا التأثير السلبى لم يصنعه فقط التحوير الأيديولوجى لهذا الموروث، بل أيضًا، وكما ذكرت، سببه طغيان الفنون التى تنتجها النخبة على الفنون الشعبية لما للأولى من سطوة الإلحاح والقدرة على الانتشار والإبهار والإزاحة.
ومع عصر الجماهير الغفيرة، صارت الثقافة التى تنتجها النخبة مبتذلة وسطحية لتجذب جمهورًا من المراهقين وأشباه المتعلمين، سواء إلى السينما أو الموسيقى أو الكتابة والصحافة، وأخذت العملة الرديئة تطرد العملة الجيدة. وفرض عصر الجماهير هذا، من ناحية أخرى، وجوده، فأصبح بمكنة أبناء الشعب أن يفعلوا ما كان مقصورًا على النخبة فى زمن مضى. وفى ركاب هذا صعدت الثقافة الشعبية، وأخذت تفرض نفسها على البنية الثقافية العليا المتغلبة، بعيدًا عن انتقاء النخبة وتحيزاتها واختياراتها كما كان يحدث سابقًا. وساعد على تحقيق هذا ظهور «وسائل التواصل الاجتماعى» على شبكة الإنترنت، التى أتاحت لكل شخص فرصة عرض ما يريد، كيفما يشاء، وكلما كان ما يعرضه فظًّا غليظًا جارحًا صادمًا زادت حظوظه فى التداول والتناول والإقبال، ليس بين الشعبويين فقط، بل لدى أفراد النخبة أيضًا، الذين تساوقوا مع هذا اللون من الإنتاج الفنى بفعل تراجع التعليم كيفًا، وتريُّف المدن، وتدهور القيم التى تُعلى من شأن الرقى والإتقان والترفع.
وجاءت مواقع التواصل الاجتماعى على شبكة الإنترنت لتزيد من سطوة الشعبوية، وتعطيها فرصًا مفتوحة لطرح فنها وأفكارها، مهما كان مستواها، وهو توجه كانت له أسبابه القوية المستمرة، وأولها أن هذه المواقع وسّعت كثيرًا من تمثيل صوت الناس فى الحياة العامة، وفتحت الباب أمام حضوره الطاغى فى مجتمع الفُرجة، وثانيها أنها أشكال من الفنون والآراء لا يحتاج طرحها وإبداؤها إلى أى جهد شاق يُبذل فى التدريب والتعلم وصقل الموهبة، وثالثها أن دخول الناس إلى مجراها المتدفق لا يحتاج إلى وساطة، ولا يتطلب المرور بحواجز من الاختبار والانتقاء والاختيار، ورابعها أن التقنيات الفائقة التى أتاحتها الوسائل الحديثة وسّعت من القدرة على التعبير، بالكلمة أو الرسم أو التمثيل أو الموسيقى وغيرها ومنحته جاذبية قوية، والخامس أن هذه النوافذ المفتوحة على مصراعيها تمنح شهرة سريعة، وقد تدر على بعض منتجى الشعبوية هذه مالًا وفيرًا.
وإذا كانت ثقافة النخبة قد أصابتها شعبوية غير أصيلة، بينما الثقافة الشعبية الأصيلة قد جرحتها ثقافة نخبوية تلاعبت بها أو غطت عليها نسبيًّا، فإننا صرنا، فى كل الأحوال، أمام هجين له السطوة أو الغلبة، بحيث صارت القريحة الشعبية شبه معطوبة، فلا تنتج أساطيرها وحكاياتها القوية القادرة على تجاوز الأزمنة والأمكنة، ولا ثقافة النخبة برئت من تأثير شعبوية زاحفة، فتبادل الطرفان الإفساد، وصار الفن المغرق فى الإبداع والتفرد عزيزًا، وبات الفن الشعبى ليس على رسوخه القديم.
وبعد كل ما أُلقى فى نهر الإبداع الأدبى والفنى هذا من أسباب كافية لتلويثه، صار الحديث عن «ثقافة إلى أعلى» و«ثقافة إلى أسفل»، بالمعنى الذى سبق شرحه، محض شىء نادر، أو حالة من الماضى، فلا المأثور الشعبى ظل على حاله من النقاء، ولا ثقافة النخبة صار بمكنتها التخلص من تأثير الشعبوية الزاحفة بقوة. وبدلًا من أن يتم التلاقى والامتزاج بين الاثنين فى مساحة هائلة من الإيجابية والتفاعل الخلاق، صار العكس، إلا ما ندر.
لا يعنى هذا أن الملاحم والسير التقليدية قد راحت أو طمرها النسيان، ولاسيما بعد أن تم تسجيلها فى كتب، ولم ينته بعد رواتها الوارثون، لكن قدرة المخيلة الشعبية على إنتاج سير جديدة ربما تباطأت كثيرًا لأسباب عديدة، أكثرها يتعلق باستسلام القرائح الشعبية لما يصدر لها من بعيد عن القرى والبيئات الاجتماعية التى تجرى على سجيتها، وتنتج أساطيرها على مهل، وتعيد فيها وتزيد حتى تنضج وتقاوم الذوبان والنسيان.
على التوازى، فإن النخبة، وتحت لافتات تترسخ فنيًّا من العجائبية والغرائبية والواقعية السحرية، راحت تنتج أساطيرها الجَلِيّة فى روايات وملاحم، تنتمى فى بنيتها إلى الشكل الحديث من فن السرد، وصار بمكنة شعر العامية بمختلف ألوانه والأزجال كذلك مما تنتجه النخبة أن يقتربا من الفن الشعبى فى صورته الأولية.
لكن الانشغال بالآداب والفنون الشعبية لم يعد مقصورًا على النخبة الثقافية من منتجى الرواية والقصة والمسرحية والشعر والفيلم السينمائى والأغنية واللوحة المرسومة والنحت وغيره، بل صار جزءًا أصيلًا فى الدراسات الاجتماعية والأنثروبولوجية وعلم الاجتماع الدينى، بل لا يمكن للعلوم السياسية والفلسفية أن تتفاداه، إن أرادت أن تنتقل من التجريد إلى التجريب.
إن هذا يؤكد فى النهاية وحدة الثقافة الإنسانية، فما هو فى الأسفل يصعد، وما هو فى الأعلى يهبط، وليس النازل أفضل من الصاعد، ولا الصاعد أفضل من النازل إلا بقدر إخلاص كل منهما لما يؤدى إلى تحسين شروط الحياة، فكم أنتجت النخبة فنًّا وأدبًا رجعيًّا، وكم أنتجت الطبقة الشعبية فنًّا يدفع إلى الأمام.