بقلم - عمار علي حسن
سأذهب الليلة، بإذن الله تعالى، إلى مسرح الرواد لحضور احتفاء بمصرى عظيم، يعيش فى الظل الساطع، ظل ألقاه الذين يقطعون الطريق على النبهاء، وسطوع صنعه الذين يكافحون بشرف واقتدار لينسجوا على مهل أساطيرهم الذاتية. إنه رجل جَسُور، يعمل فى صمت، ولا يُضنيه أن يقاتل على جبهات عدة، يفتح أعداؤه مدَدها على الفساد والغشم، لكن عالِمنا الكبير لا يبالى، رغم وعورة الطريق، وفداحة الثمن، وقلة مَن يصاحبون الحق، ويرومون الحقيقة، وكثرة مَن يتخلون عن أصحابها تباعًا، مُنْفَضِّين إلى دنيا يصيبونها، مالًا كانت أو منصبًا أو بريقًا زائفًا.
هذا الرجل هو الأستاذ الدكتور محمد رؤوف حامد، أستاذ علم الأدوية بالهيئة القومية للرقابة والبحوث الدوائية، وهو أحد علماء مصر الأفذاذ، ففى تخصصه له مكانة مرموقة، وفى الحياة العامة له مواقف مشهودة، وهو يؤدى دوره هذا دون ضجيج، رغم أن اسمه برز إلى عموم الناس من بين معارك كانت تبدو صاخبة أحيانًا عند المنشغلين بشؤون الوطن، خاضها عنيدًا فى الحق، ضد الفاسدين فى قطاع الدواء، وضد المتواطئين مع شركات متعددة الجنسيات فى مجال صناعة الأدوية، وضد أغلب البيروقراطيين الكبار، من الذين يحاربون بلا هوادة كل مَن يريد أن يؤدى دوره فى نزاهة وتجرد متحيزًا للمصلحة العامة لأن هؤلاء يهددون الجالسين على الكراسى الإدارية العالية، بالعلم والنزاهة.
من بين المختصين فى العلوم البحتة قلة يدهشك تناولهم قضايا العلوم الإنسانية ومسائلها. أيام كنت طالبًا فى مرحلة البكالوريوس، وكذلك بعد تخرجى وفى أول عهد بالبحث العلمى، قابلت واحدًا منهم، هو د. عبدالمجيد فراج، أستاذ الإحصاء بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية، فكنت أنتظر فى لهفة مداخلاته خلال المؤتمرات التى يعقدها مركز البحوث والدراسات السياسية، حيث كانت تأتى مختلفة، عميقة ومدهشة. ومرت سنوات وقابلت رجلًا ثانيًا من الصنف نفسه، هو د. رؤوف حامد، أدركت هذا وأنا أقرأ كتابه المهم جدًّا عن الفساد، ودراساته اللافتة المعنونة بـ«المستقبل.. فكرة القوة وقوة الفكر» و«التقدم الأُسى.. إدارة العبور من التخلف إلى التقدم» و«التوافقية.. منهج علمى تكنولوجى جديد» و«القفز فوق العولمة» و«الوطنية فى مواجهة العولمة»، ودراساته المتخصصة عن «العولمة والدواء» و«فوضى الشأن الدوائى فى مصر»، و«ثورة الدواء.. المستقبل والتحديات» و«قصة الدواء.. علم وتحديات» و«التصنيع الدوائى وتحولات ما بعد جائحة كورونا» وغيرها الكثير، فيما أشرف وناقش العديد من الأطروحات الجامعية، وله تلاميذ ليس فى مصر وحدها إنما فى دول أخرى من بينها ليبيا وإريتريا، وأبحاثه استفاد من بعضها نظراؤه فى الغرب.
وتصور د. رؤوف حامد يقف على أرضية وطنية، على مستوى الأفكار والمنهج والأداء، فهو يعرف جيدًا أن دواءنا مثل غذائنا، يجب أن يكون من صنع أيدينا، لكنه لا يقف فى هذا موقف المتحجر، الذى لا يعرف ما بيننا وبين الغرب خصوصًا من فجوة فى هذا المجال، وهى مسألة تترجمها عبارته الدالّة المنضبطة: «أنا لست مع شركات الأدوية الأجنبية العاملة فى مصر، لكننى ضد معارك الشركات المصرية لأسباب من المحتمل ألّا تكون حقيقية».
ولأن د. رؤوف حامد، الذى حصل مؤخرًا على أكبر جائزة تمنحها منظمة العمل الصحى الدولى، رجل متسق مع ذاته، ويعرف كيف نمضى فى الطريق الممهدة لبلوغ هذه الغاية، فقد حاول أن يجلب تمويلًا للبحث العلمى فى مجال الدواء، وأعد لهذا قبل نحو عشرين سنة دراسة ضافية، لكنه وجد صدودًا وانصرافًا ولامبالاة حتى من شركات الأدوية، التى يجب أن تكون أول المعنيين بتطوير هذه الصناعة المهمة. لكن هذا لم يلقِ به إلى اليأس والقنوط، فإذا كان توفير المال بيد غيره، فإن تقديم المعرفة بيده، وهو قابض عليها، أمام مَن لا يعرفون قيمتها، وباسطها للذين يسعون إليها من الباحثين والعارفين.
ولعل الدراسة- التى نشرها د. رؤوف فى مجال تخصصه، ضمن تصور قدمه وقدم له د. مجدى يوسف، فى كتاب استثنائى عن مناهج وإجراءات علمية ومعرفية تلائم واقعنا، وتنتمى إلى مصالحنا- هى خير برهان على هذا، إذ أثبت من خلالها أن التداوى ليس مسألة كيميائية بحتة، إنما يرتبط بثقافة الشعوب وحضارتها، التى تنتج من الطقوس وطرائق العيش وأنماط الطب الشعبى وأساليب التعامل مع الأمراض بدءًا من التحايل عليها حتى مواجهتها بجسارة، وبرهن على هذا بإجراءات عملية علمية.
ورؤية د. رؤوف تقاوم العشوائية والإهدار فى مجال الدواء، والتى يلخصها فى هيمنة توجهات خاطئة مثل الاعتقاد بتناسب مصانع الدواء طرديًّا مع الزيادة السكانية، وإجهاض المبادرات الناجحة فى صناعة المواد الدوائية الخام، وتسويق سياسات دوائية وهمية، ورفض القائمين على هذه الصناعة تمويل البحث العلمى فيها.
بعد ثورة يناير، ظن د. رؤوف أن الوقت قد حان لترجمة ما كان يحلم به فى مجال صناعة الأدوية إلى الواقع، لكنه فوجئ بأن الردود والصدود والعراقيل لا تزال على حالها، فترك مصر فى إعارة إلى إريتريا، ثم لم يلبث أن عاد ليواصل مهمته فى البحث والكتابة لعل أجيالًا جديدة تستفيد مما فى رأسه من معرفة وخبرة. وهو فى حاله هذا غنى بزهده فى المال والمناصب، مقتنع بأن العلم، الذى يؤجَر عليه من الله سبحانه وتعالى، خير وأبقى، حتى لو كان، وهو فى هذه السن المتقدمة، يرتاد الميكروباص فى تنقلاته داخل القاهرة.