بقلم - عمار علي حسن
(1)
انكسر داعش على نصال ثقافة مصرية عميقة الجذور، راسخة الأقدام، واضحة المعالم، تؤمن بأن هذه الدولة قامت فى فجر التاريخ لتبقى إلى نهاية العالم، وأن أى مشروع لتفكيكها أو الانتقاص من أرضها أو تهديد وجودها مآله إلى انهزام، وأن أى شخص، أيا كان موقعه، وأى تنظيم أيا كانت قدرته، لا يفهم تلك المعادلة، التى تتشكل أطرافها من تصورات الدين والإرث الثقافى والخبرة الحياتية الطويلة لمن عاشوا على ضفاف النيل العظيم، لن يفلح فى إقناع المصريين بسلامة مسلكه، سواء رفع شعار «الخلافة» أو «الدولة الوطنية» على ما بينهما من اختلاف.
سيستدرك أحدهم ليقول لى: ما واجه داعش، وكسر شوكته، هو قوة السلاح. ولن أختلف مع المستدرك فيما ذهب إليه، لكنى سأرد عليه: إن الأسلحة لا تقاتل بنفسها، فوراء كل بندقية دافعية وجاهزية ورغبة رجال، يسرى الإحساس بأهمية وجود الدولة واستقرارها واستمرارها فى أذهانهم ووجدانهم، وهو إن كان يرقد أحيانا فى اللاشعور، ويتوارى فى زحام المشكلات اليومية المتفاقمة، فإنه سرعان ما يحضر إلى الشعور فى ساعات الخطر، ويغلب كل شىء، بما فيه الحنق على سلطة قائمة، أو الاختلاف معها.
طيلة التاريخ المصرى كانت الدولة حاضرة، أيا كانت حالة الرضا عن أهل الحكم من عدمه، وهى مسألة لم تفهمها جماعة الإخوان فى سنة حكمها، فاعتقدت واهمة أن تصورها عن الدولة الذى عفى عليه الزمن بوسع المصريين أن يتقبلوه، وهو التصور الذى تم التعبير عنه على لسان مهدى عاكف بعبارة غاية فى السوء والجهل والجحود: «طز فى مصر». ولأن أغلب التنظيمات الدينية التى جنحت إلى الإرهاب قد تأثرت بأفكار سيد قطب، الذى تأثر بدوره فأفكار البنا والمودودى، لم تدرك ماذا تعنى «الدولة» للمصريين، أخفقت فى أن تحقق على أرض مصر ما تصبو إليه.
فحين انطلق مشروع داعش من سيناء، متخذا منها نقطة مركزية يحشد فيها جل قدرته على الإيذاء، ظن مطلقوه أنه ذاهب لا محالة إلى اتساع، لكن نار التنظيم ما إن توهجت ومدت ألسنتها لتحرق، حتى خبت، وصارت رمادا تذروه ريح المصريين.
سيقول قائل إن قصة داعش فى مصر لم تخل من تهويل لمآرب أخرى. لا أستطيع أن أرى هذا القول مجرد هراء، لكن على الجانب الآخر لا يجب التهوين من داعش، خاصة فى أيامه الأولى، وقت أن كان يضرب بقسوة ليصل إلى هدفه فى أسرع وقت ممكن، بغية تكوين «إمارة» تبدأ بسيناء، ثم تتسع فى الوادى والدلتا، حسب توهمه، أو وفق ما حققه بالفعل فى العراق وسوريا قبل ثلاث سنوات، وظن وقتها أن التراب الذى وطأه مقاتلوه سيظل «أرض الخلافة» إلى الأبد.
لكن داعش، كما هى التنظيمات التى سبقته بدءا بالإخوان وانتهاء بجماعات ما تسمى «السلفية الجهادية»، لم تدرك موقع الدولة فى نفوس المصريين، وكيف أن أفكارا من قبيل «شوكة النكاية» و«إدارة التوحش» وقبلها «الجاهلية الجديدة» و«الهجرة التى يعقبها الفتح» ستقود لا محالة إلى فوضى واضطراب، يشكل خطرا شديدا على تماسك الدولة ومن ثم فإن رفض المصريين لها جازم حاسم لا يقبل الشك.
وإذا كان بعض المدافعين عن الجماعات المتطرفة يتبرمون من حديث عن الدولة بهذه القداسة، وكذلك من يرفضون المغالاة فى «الدولتية»، فإن المصريين لم ينظروا إلى الدولة أبدا على أنها إله، ولم يبرروا مسلك من يستبدون أو يسرقون باسم الحفاظ عليها، لكنهم صبروا عليهم إن وجدوا أن ثمن الغضب الفائر الثائر منهم سيؤدى إلى انهيارها. لهذا أحسن المصريون اختيار لحظة الغضب التى لا يريدون منها أبدا هدم الدولة أو تقزيم دورها، كما هو موجود فى أفكار بعض الجماعات المتطرفة، إنما تصحيح مسارها، وتغذيتها بأسباب جديدة للقوة.
لهذا لم يكن لدى أدنى شك فى أن «داعش» ستترنح، وأن أفكار الإخوان حول الدولة ستجعلهم يخفقون فى حكم مصر، وليس أدل على هذا من أن مرسى تصرف طيلة سنة رئاسته على أنه ممثل الجماعة فى حكم مصر. كما أننى واثق من إخفاق كل من يعتقد أن بوسعه أن يختزل الدولة فى شخصه ويكون فوق المؤسسات والهيئات، أو يفرط فى أرضها، أو يحاول أن يحرف مهام الدولة المصرية عن دورها التاريخى، أو يهين شعبها، أو يفرض عليه مشروعا يتناقض مع تصور المصريين عن بلدهم العريق.
( 2 )
انتهيت من دراسة علمية تؤكد أن «الإخوان» يؤمنون بمبدأ «النكاية» ويعنى التشفى والشماتة والرغبة فى الانتقام، لهذا يتمنون أن يروا الذين أسقطوهم عن الحكم يتقاتلون يوما فى شوارع تعج بالفوضى، وتسيل دماؤهم أنهارا. لكن الشعب المصرى العظيم أوعى من أن يحقق لهم هذه الأمنية البغيضة.
نقلا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع