لم يُتَحْ كاملًا لاقتصاديات الدول العربية، على تفاوت قدراتها، كى تصل إلى أقصى حد من «تعميق التصنيع» ليصبح بإمكانها غرس جذور طويلة صلبة لتنمية اقتصادية متكاملة الأركان، فالعرب إما أنهم قد توغلوا قليلًا فى مجال الصناعة، وارتضوا بحصاد هزيل يقتصر على صناعات خفيفة تُقام داخل الحدود التى يرسمها رأس المال الأجنبى، أو أنهم اكتفوا باستيراد الجزء الأكبر المكمل لصناعتهم من الخارج، بعد أن مضى عهد تبنوا فيه مشروعات صناعية كبرى لم يُكتب لها النجاح، مثل ذلك الذى تأسست على أثره الكثير من المصانع، وقت أن كان نظام الرئيس جمال عبدالناصر يرفع شعار «من الإبرة إلى الصاروخ». وفى الغالب فإن العرب تحولوا إلى سوق رائجة للبضائع الأجنبية، على مختلف أشكالها وأثمانها ومجالات استخدامها.
ورغم وجود بنية تحتية لا بأس بها، ومرافق أكثر حداثة، ومستويات معيشة مرتفعة بالدول النفطية الخليجية، فإن البنية الاقتصادية فى عمومها تعتمد على إنتاج القطاع الأولى، الذى يوفر فوائض مالية ضخمة، لكنه عاجز عن إنهاض الاقتصاد وتحويله من مرحلة «القابل» إلى مرحلة «الفاعل»، وأضعف من أن يُنهى حالة التنمية اللامتكافئة بين العرب بوصفهم جزءًا من العالم الثالث وبين الدول المتقدمة صناعيًّا. ومن ثَمَّ، فهناك عدة أمور تجعل حاجتنا فى العالم العربى إلى التنمية الذاتية مُلِحّة، وهى:
1- ارتهان العرب، قطريًّا وقوميًّا، وفى المجالات الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية والأمنية والتقنية، للتبعية، التى تمتص قسطًا كبيرًا من جهدهم الاقتصادى، وتعطل قدراتهم، وتشوه مسارهم الإنمائى.
2- وجود حال من التواطؤ الضمنى أو الصريح مع القوى الخارجية، التى تعمل على إبقاء العرب أمة مستهلكة، واستمرار ما يحوزونه من ثروات، وعلى رأسها النفط، كمجرد مواد خام للآلة الصناعية للدول الكبرى.
3- القيمة الإيجابية التى تكمن فى سعى المجتمع العربى إلى تحقيق تنمية مستقلة، والتى تنعكس على مختلف المسارات والخيارات الأخرى.
4- إخفاق برامج «الخصخصة» و«التكيف الهيكلى» فى النهوض بالاقتصاديات العربية، وإخراجها من كبوتها، وفشلها فى خدمة التوجه نحو العمل الاقتصادى العربى المشترك، الذى لا يزال حبرًا على ورق.
5- لم تتخلَّ الدول الرأسمالية الكبرى عن تطبيق بعض المبادئ العامة للتنمية الذاتية، وبعض الإجراءات الخاصة بها، من قبيل الاكتفاء الذاتى، والتفاعل الاقتصادى الخلاق مع العالم، وتشجيع الصناعات المحلية، كل ما فى الأمر أن هذه السياسات أخذت مسميات أخرى، ولبست مصطلحات مغايرة. وليس هذا بأمر جديد أو استثنائى على الرأسمالية، التى نجحت فى تجديد نفسها مستفيدة من عطاء النظريات الاشتراكية، وذلك بالاهتمام بسياسات التأمين وإعانات البطالة وتوفير الدولة للخدمات الرئيسية.. إلخ.
والطريق الذى تأخذه التنمية الذاتية العربية يتعبد على حزمة من المسارات الصغيرة المتجاورة، بل المتلاصقة، أولها التخلص من مقولات ومضامين النموذج الاقتصادى/ السوسيولوجى الليبرالى الكلاسيكى، الذى يجعل من «التغريب» طريقًا واحدة للتنمية، ويعبد دربًا واحدًا للتحديث الاقتصادى والاجتماعى، هو ذلك الذى سلكته الدول الغربية.
وثانيها هو التمسك بالأصالة فى ظل الاستجابة لمقتضيات المعاصرة، بحيث نستلهم من التراث ما فيه من قيم ومبادئ أساسية عامة، ونأخذ من الحداثة ما أهدته لنا من مؤسسات وإجراءات تنظيمية وقوانين للعمل وأدوات وأساليب للإنتاج.
أما ثالثها فيتمثل فى ضرورة سبر أغوار «التبعية» وإدراك منشئها وجذورها للوقوف المتوازن والسليم على معناها ومبناها وطبيعتها وحقيقتها وتمثلها فى اللحظة الراهنة وامتداداتها وتغولها فى مختلف المجالات. وهذا الفهم والإدراك مقدمة ضرورية لبناء استراتيجيات ترمى إلى وقوف زحف التبعية، وإجبارها على الانحسار.
والرابع هو تطوير مفاهيم ملائمة للوضع الاجتماعى العربى من دون التقيد بالمفاهيم التقليدية محدودة الأفق، التى يتأسس عليها الفكر الاقتصادى المتداول، مثل تعظيم الإنتاج وتضييق فجوة الدخل بين البلدان الصناعية الكبرى ونظيرتها النامية ورفع مستوى الدخل الفردى الحقيقى وزيادة معدل النمو الاقتصادى، فهذه المفاهيم إن كانت تنطوى على أهداف طيبة، فإن من الواجب إدخال تعديلات عليها، وإخضاعها لاختبار تُطرح فيه أسئلة أربعة هى: لماذا ننمى؟، لمَن ننمى؟، ماذا ننمى؟، كيف ننمى؟، بحيث يصبح الهدف الأساسى للتنمية هو تحقيق مصلحة الجماهير العريضة وليس مصالح تابعة لاقتصاديات ما وراء البحار.
أما الخامس فينبنى على ضرورة الاعتماد على الذات إلى أقصى حد ممكن، بدءًا بتصورنا عن التنمية من حيث دلالاتها ومراميها وطرق تحقيقها وانتهاء بتوظيف الطاقات والقدرات العربية الذاتية، بشرية وطبيعية، لخدمة التنمية.
والسادس هو إيجاد إطار ملائم يسعى إلى التنمية الذاتية ويحرس منجزاتها ويدفعها إلى الأمام يتأسس على استقلال القرار السياسى العربى، وتمكين الجماهير من المشاركة السياسية فى ظل نظام ديمقراطى سليم وحقيقى.
وإذا انطلقنا إلى الجوانب التطبيقية للتنمية الذاتية العربية، فنجدها تقوم على عدة إجراءات، مثل وجود تنمية بشرية تتأسس على فلسفة تربوية تتيح للإنسان العربى أن يطلق قدراته الكامنة إلى آخر مدى لها، ويدفع كل ركائز قوته الناعمة بأقصى سرعة ممكنة، وتمتين البنى التحتية على المستوى القطرى أو عبر الأقطار العربية، ولاسيما فى قطاع النقل والمواصلات، والعمل الحثيث والجاد على امتلاك تقنيات ملائمة بما يؤهل العرب تدريجيًّا للاستغناء عن جزء من التكنولوجيا الغربية، وينزع عنهم الوهم الذى يراود عقول الكثيرين من أن «استيراد التكنولوجيا» يعنى نقل التكنولوجيا، وتطوير الريف العربى بتعزيز بنيته الأساسية بما يُمكِّنه من العودة إلى سابق عطائه، والإسهام الجاد والملموس فى تحقيق الاكتفاء الذاتى من الغذاء، وتطوير الصناعات الهندسية الأساسية والصناعات المستقبلية بدءًا من بناء قاعدة بحثية لإبداع الأفكار التى يحولها رجال الصناعة إلى منتجات من السلع والخدمات، واعتماد سياسة رشيدة فى إدارة الموارد الطبيعية بما يمنع هدرها، ولا يصادر على حق الأجيال المقبلة فيها، وحسن استخدام العائدات المادية التى تدرها، وترشيد أوجه الإنفاق والاستهلاك وزيادة حيز الادخار وتقليل حجم الاستيراد من الخارج، ولاسيما للسلع الاستهلاكية والترفيهية والمظهرية، بما يسهم فى تعزيز الوفورات المالية التى تحتاجها إقامة المشروعات وبناء المصانع.