بقلم - عمار علي حسن
(1)
هاتفنى، بالأمس، الأستاذ المبجل «نبيل أنس خليل» الذى درَّس لى الرياضيات واللغة العربية فى السنة الابتدائية الرابعة، ثم الرياضيات والعلوم فى السادسة. سمعت صوته مجهدا آتيا من جوف زمن بعيد، لكن إيقاعه القديم لم يفارق نفسى: فقلت فى فرح شديد: «أهلا أستاذنا العظيم»، وقبل أن أعبر له عن امتنانى بأنه قد تفضل، واتصل بى بعد كل هذه السنين، وجدته يشكرنى على أننى قد أتيت على ذكر اسمه وعددت فضله فى لقائى الجمعة الفائتة مع الأٍستاذ محمود سعد ببرنامج «باب الخلق» على قناة النهار، والذى دار حول سيرتى الذاتية التى أصدرتها مؤخرا تحت عنوان «مكان وسط الزحام».
وكنت قد كتبت فى هذه السيرة عن أستاذى العظيم ما يلى: «كنت طفلاً تائها شاردًا طيلة الوقت، ولم أظهر أى نجابة فى التعليم، حتى الصف الرابع، حيث جرى ما لم أعرفه وقتها، إذ وجدت نفسى أتفوق بلا حدود، وأنتقل من المستوى المتوسط، أو ما هو أقل منه، إلى المركز الأول على الصف. ويعود الفضل فى هذا إلى أستاذ جديد، كان يُدرِّس لنا مادتى الحساب واللغة العربية، اسمه الأستاذ نبيل أنس خليل، انتقل إلى مدرستنا عام 1977، وآمن بقدراتى فشجعنى تشجيعًا قويًا. أتذكر أنها كانت حصة للغة العربية حين جمع الكراسات ليرى إجاباتنا عن الأسئلة التى كلفنا بحلها، وكتب لى فى كراستى: ممتاز وشكرا».
تحدث معى أستاذى بما أنا عليه الآن، فكان ينادينى خلال المكالمة بـ «حضرتك» و«معاليك» وأنا أقطر خجلا منه، فهو الأجدر أن يُنادى بهذا لو كان يعلم قدره عندى، وأننى معه كنت على موعد مع قدرى، وأنه الرجل الذى ساهم بإخلاص فى إقالتى من عثرتى، وحفزنى على أن أنطلق فى طريق العلم دون توقف حتى الآن، ومعه أساتذة أجلاء مثل الأستاذ فتحى محمد حسين، مدرس المواد الاجتماعية، وجاد عثمان الزايط، الذى كان مدرس فصل فى السنوات الثلاث الأولى، يدرس لنا كل المواد.
تمضى السنون وقد يكبر بعضنا مقاما فى عين الناس عن الذين علموه فى مراحل التعليم الأولى، بل فى عين هؤلاء المعلمين أنفسهم، الذين لا يفارقون المرحلة الابتدائية حتى إحالتهم إلى التقاعد، لكن من منا ينسى الذين كانوا أو من سقى بذرة المعرفة الغضة، ورعاها حتى اهتزت وربت، وصار بوسعها أن ترفع براعمها فى وجه الريح، متطلعة إلى أعلى. فهؤلاء، ومهما تجاوزناهم فى العلم والمعرفة، بقدر الكتب التى قرأناها، والدرجات التى نلناها، والخبرات التى حزناها- لا يمكن أن ينقطع فضلهم، ولا يجب أن يذهب ودادهم، أو يسكننا وهم فى أى لحظة رخيصة بأننا يمكن أن ننظر إليهم من عل، أو ننساهم فى زحمة الطريق.
راح أستاذى يبدى امتنانا على أننى لم أنسه، وأننى تحدثت عنه بهذه الطريقة، بينما أنا من يجب أن يمتن له بأنه لا يزال يذكرنى، رغم أن الزمن قد داهمه، ومرت أمام عينيه الألوف والألوف من وجوه الذين يجلسون أمامه متطلعين إلى فمه الذى ينطق الحرف والرقم، ويده التى تخطهما على السبورة، فترسم لمن ينتبه معالم طريقه.
وما إن أنهيت الحديث مع أستاذى حتى تذكرت المستشارة أنجيلا ميركل التى ردت على قاضٍ طالبها برفع راتبه، ليتساوى مع راتب مدرس الابتدائى فى ألمانيا قائلة: هل يستقيم أن تتساوى بأستاذك؟
(2)
لن يفلح الاغتيال المعنوى للمعارضين فى إجبارهم على السكوت والصمت المطبق، كما يظن من أطلق أبواق الافتراء والكذب والتشويه والدعايات الرخيصة، مع انكشاف كل ملامح اللعبة، لتصير عارية، لا تسترها ورقة التوت الوحيدة التى أحرقها إعلاميون فاقدو الفهم والجدارة والمصداقية، ثم اختنقوا بدخانها الأسود الكريه، منزوين فى عتمة تليق بهم.
(3)
رمى السجينان عيونهما من بين القضبان الحديدية الصلبة والليل يرمى ثقله على ضوء خافت ينبعث من لمبة الطريق الخالى. الأول تعلق بصره بالأرض الموحولة من آثار مطر هطل قبل المغيب. الثانى أرسل ناظريه إلى جوف السماء وانشغل بعد النجوم التى بوسعه أن يراها.
حين عادا إلى الزنزانة الضيقة الرطبة، انخرط الأول فى بكاء حار، ازداد به الظلام قتامة. الثانى أغمض عينيه، وانفرجت شفتاه فى ابتسامة، كادت لها العتمة تضىء، ثم راح يغنى بصوت عذب، ترامى إلى آذان القابعين فى كل الزنازين.
نقلا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع