بقلم - عمار علي حسن
فى كتابه «الأبطال»، يقدم توماس كاريل أبطاله فى صور شتى، أولاها البطل فى صورة إله، حيث يتحدث عما سماه «عبادة الأبطال»، التى تعنى الإفراط فى إجلالهم إفراطًا لا حد له. والثانية هى البطل فى صورة رسول، ويمثله محمد بن عبدالله، صلى الله عليه وسلم، والثالثة هى البطل فى صورة شاعر، ويجسده كل من دانتى وشكسبير، والرابعة هى البطل فى صورة قس، ويجسده مارتن لوثر بالنسبة للبروتستانتية وجون نوكس بالنسبة للبيوريتانية. وقياسًا على هذه النماذج، يحفل التاريخ البشرى بالأبطال، الذى كبروا فى عيون الناس ونفوسهم، وصاروا رموزًا ومثلًا عليا، يُقتدى بها.
ويُولد البطل فى السير الشعبية مصحوبًا بنبوءة واضحة المعالم، ترتبط بوجوده الفعلى، وتحدد له المصير المُعَدّ له، والدور الذى سيلعبه فى حياته، وهو دور حتمى، ليس بوسعه أن يفر منه، أو يتفاداه. وتضع هذه النبوءة بصمة أساسية فى إخراج البطل من حيز الإنسان العادى إلى براح الإنسان الأسطورى ليدخل دائرة الكون الفسيح، فيتوحد معه، ويرتبط به ارتباطًا وثيقًا. والنبوءة قاسم مشترك فى أساطير البطولة كافة وحياة أصحاب الملاحم والسير الشعبية الكبرى. ومن أشهر النبوءات فى هذا الشأن تلك التى أطلقها الإغريق على أخيل، بطل الإلياذة، وكعبه وكذلك على بيرسيوس وهيراقليس، وتلك الخاصة بأوديب، والتى حملها معبد دلفى إلى والده، و«قورش» ورستم وجرشاسب عند الفرس. وفى الأساطير العربية سبقت النبوءة مجىء أبوزيد الهلالى وحمزة البهلوان وعبدالوهاب ابن الأميرة ذات الهمة وعنترة بن شداد والزير سالم والمهلهل بين ربيعة.. إلخ.
وفى حقيقة الأمر، فإن معظم الشعوب التى كانت لها حضارات عظيمة نسجت الكثير من الأساطير النمطية التى تمجد فرسانها وملوكها وأمراءها ورجال دينها الكبار ومَن بنوا مدنها التاريخية. ومن أشهر تلك الأساطير أسطورة «حورس» فى الأدب الفرعونى القديم، و«إنكى» فى ملحمة الخليقة البابلية، و«بعل» فى آداب الكنعانيين، و«سرجون الأكادى» مؤسس الإمبراطورية الأكادية فى بلاد النهرين، و«شمشون» عند العبرانيين.
وتوزعت أساطير هؤلاء «الأبطال» على عدة أشكال، منها ما يُعرف بـ«أسطورة البطل» والملاحم والتراجيديا والحكايات الخرافية والحكايات السحرية والسير الشعبية والأسطورة الدينية.
وينحت بعض المبدعين أبطالًا من خيالهم الخصب، لكنهم يتركون علامات فى تاريخ الإنسانية، وتتردد سيرهم وأفعالهم وكأنهم بشر من لحم ودم، وليسوا مجرد سطور دبجها قلم، وربما لم يتوقع كاتبها لحظة تدبيجها أنها ستعلو فى نفوس الناس هذا العلو، وتجرى على ألسنتهم هذا الجريان. ويمكن أن نضرب مثلًا هنا بشخصية «دون كيشوت»، التى أبدعها الكاتب الإسبانى ذائع الصيت سيرفانتس (1546- 1616)، بعد أن احتشد خياله بقصص الفروسية التى قرأها من الأدب اليونانى القديم، فهذه الشخصية المختلقة صارت مضرب الأمثال على الفروسية الجامحة، التى جعلت صاحبها يعشق الحرب، فإن لم يجد مَن يحاربه حارب طواحين الهواء. وحفل الأدب العالمى بنماذج عديدة على المنوال نفسه، مثل هاملت لشكسبير وفوست لجوته... وهكذا.
وهذه النماذج الخيالية المختلقة تدل دلالة قوية على أن الناس يتوقون دومًا إلى البطولة، فإن لم يجدوها اخترعوها. وسواء كان البطل حقيقيًّا، عاش بين الناس ومشى على الأرض وسُمعت أقواله وشوهدت أفعاله، أو كان صناعة كاتب قدير أو إنتاج قريحة شعبية متوقدة، فإن الحياة بحاجة دومًا إلى الأبطال كى ترتقى وتتقدم وتسير إلى الأمام.
أما الشجاعة فقد نستشف صعوبة معناها من تلك المحاورة الطويلة التى أجراها سقراط حول هذه القيمة، والتى انتهت بأن أشاح بيده وقال لأصحابه: «لقد فشلنا فى أن نكتشف ماهية الشجاعة». ولم يكن مَرَدّ هذا اليأس إلى كسل عقلى أو سؤال مَن ليسوا من أهل الاختصاص، بل كان منبعه تعقُّد معنى الشجاعة، إلى الدرجة التى تجعل فهمها مرتبطًا بفهم الوجود نفسه.
لكن البشر لم يهملوا فى تاريخهم الطويل البحث عن معنى للشجاعة، حتى لو كان غير جامع ولا مانع. وفى المعنى العام المتواتر استخدامه فى قواميس العرب تعنى الشجاعة الجرأة والإقدام التى تقوم على شدة القلب فى البأس، والصبر والثبات على جلب الأمور النافعة ودفع الأمور الضارة، واستطاعة التغلب على رهبة المواقف. ويرى الفقيه العظيم ابن حزم الأندلسى أنها بذل النفس للذود عن الدين أو الحريم أو الجار المضطهد أو المستجير المظلوم، وعمّن هُضم ظلمًا فى المال والعرض، وسائر سبل الحق سواء قلَّ مَن يعارض أو كثر. أما عالِم اللغويات عبدالقاهر الجرجانى فينظر إليها باعتبارها هيئة حاصلة للقوة الغضبية بين التهور والجبن بها يقدم على أمور ينبغى أن يقدم عليها. ويعتبرها الجاحظ الإقدام على المكاره والمهالك عند الحاجة إلى ذلك، وثبات الجأش عند المخاوف مع الاستهانة بالموت.
ويعتقد الفيلسوف عبدالغفار مكاوى أن هناك نوعين من الشجاعة، سياسية وصوفية، الأولى تقاوم ما يعترضها من صعاب فى سبيل تحقيق العدل، والثانية تسير بالنفس فى ليل العالم وتخترق بها ظلام المادة والحواس. ومع أنهما مختلفتان فإنهما تنهلان من نبع واحد، يتمثل فى التخلى عن الذات أو العالم والاستعداد للتضحية بالنفس فى سبيل قيمة أسمى، وكلتاهما تحارب الشر فى العالم، وتحدوها الأمل فى النصر، حتى لو تطلب الأمر التضحية بالنفس. وهنا نرى أن الشجاعة تتعلق بإدراك الموت، ولذا لا يمكن للحيوان أو الملاك أن يتصفا بالشجاعة، فالشجاع هو الذى يواجه الموت فى كل وقت، ويستعد أن يلاقيه فى أى مكان، ولذا فإن الاستشهاد هو غاية الشجاعة، والدم تاجها، سواء كان فى سبيل العقيدة الدينية أو فى سبيل الوطن والمبدأ أو تحقيق رسالة فى الحياة.
(ونُكمل الأسبوع المقبل إن شاء الله تعالى)