توقيت القاهرة المحلي 22:20:17 آخر تحديث
  مصر اليوم -

الثقافة العلمية وإعداد النشء العربى للمستقبل (2 ـ 3)

  مصر اليوم -

الثقافة العلمية وإعداد النشء العربى للمستقبل 2 ـ 3

بقلم - عمار علي حسن

قمت فى مقال الأسبوع الماضى بتوصيف مشكلة «ضعف الثقافة العلمية لدى النشء العربى»، وشرحت سبيلين لمواجهتها، وهما: «التعليم» و«المجتمع المدنى».. وهنا أكمل:

3 ـ الثقافة: تعانى الثقافة العربية من نزوع إلى الماضوية، إنها بطبعها مشدودة إليه، إلا قليلا.. فالذين يفكرون فى المستقبل ينعتهم كارهونهم بالاغتراب عن الثقافة الأصيلة والأصلية. ولا سبيل إلى الخروج من هذا النفق الطويل المظلم إلا باستراتيجية تتعدى مجرد رغبات بعض الأفراد وقلة من المؤسسات التى تتمسك بالتفكير فى المستقبل، ليصبح المجتمع كله مؤمنا بهذا السبيل.

وهذه الاستراتيجية يجب أن يشارك فى صناعتها كل قوى المجتمع الفاعلة، فى كل دولة عربية على حدة، لاسيما من بين أولئك المعنيين بالفكر والثقافة. والحديث عن استراتيجية هنا يعنى وجود حزمة من التصورات والإجراءات والآليات التى يجب أن تكون موجودة بالفعل فى سبيل تحقيق غاية على هذا النحو.

إن أول لبنة فى بناء النظر إلى المستقبل، سواء كانت خطة أو استراتيجية، هو أن تمتثل بوعى واقتدار إلى ما يجب أن تتضمنه ثقافة ناجعة من أجل المستقبل، وهذا يتطلب عدة أمور، أولها: عدم التعامل مع الماضى بوصفه قيدا أو التزاما صارما أو حالة مثالية يجب العودة إليها، إنما هو مخزن للاعتبار والعظة، ولا يزيد على هذا.

وثانيها: امتلاك القدرة على التخيل، على أن يكون خيالا علميا وليس مجرد شطحات أو تهيؤات أو تفكير بالتمنى أو أوهام. وثالثها: اختيار منظومة من القيم الإيجابية التى تدفع إلى المستقبل، وهى تلك التى تحض على التفاؤل والانطلاق من الآنى إلى الآتى. ورابعها: تحويل هذا الخيال السارى أو السابح أو الطائر إلى مسار له قوام يمكن تعيينه والإمساك به، وهذا لا يمكن أن يتم إلا إذا تم نقل التصور النظرى حول ما يأتى إلى إجراء أو مسألة يمكن تطبيقها فى الواقع المعيش.

إن الثقافة العربية لا تحمل، كبنية ومضمون، انحيازًا بالضرورة إلى الماضى، وارتكانا إليه، وتمسكا به، وقداسة له، فماضى هذه الثقافة فى فحواه ومنهجه كان معنيا بالمستقبل، ليس مستقبلنا نحن الآن، إنما مستقبل العرب الذين كانوا يتتابعون جيلا بعد جيل، بينما الحضارة العربية ـ الإسلامية مستمرة فى تمكّنها لسبعة قرون على الأقل. وأتت المشكلة فيما بعد.

ليس من هذه الثقافة فى حد ذاتها، وإنما من المنتمين إليها، الذين تعلقوا بها ولم يفارقوها حين تردَّت أحوالهم وغربت شمس حضارتهم وبزغت حضارة أخرى، لم يتقبلوا هذا الأمر، وظلوا متشبثين بما كانوا عليه فى أيام توهجه التى لا يمكن لها أن تلمع اليوم مع تبدل الأحوال والظروف والأفكار والإمكانيات والقدرات العلمية بالمحتوى القديم نفسه، ولم يفهموا أن الثقافة العربية التى يتمسكون بها كانت بنت زمانها، وحتى تقوى وتستمر فقد استفادت من الثقافات كافة التى سبقتها أو عايشتها.

والحديث عن الثقافة يقود بالضرورة إلى الانتباه إلى خصائص «المخيلة العامة»، وهى ليست مجموع الخيالات التى تعشش فى رأس كل فرد فى المجتمع على حدة، لكنها حصيلة تفاعل معقد وعميق وواسع يصنع مخيالا للجماعة البشرية فى وقت من الأوقات، بعضها صناعة الموروث، وآخر ابن زمنه. وهذه المخيلة إن كان المستقبل يشكل جزءا من انشغالها، فإنها ستنزع إليه بالضرورة.

وهنا نواجه بالقطع معضلة شديدة، لأن مخيلاتنا الجمعية مشدودة إلى الخلف، ليس لبناء نماذج إرشادية تساعدنا على فهم ما يجرى الآن، ولا لاستلهام العبرة، أو الوقوف على نقاط القوة فى شخصيتنا فنتمسك بها، ونقاط الضعف فنتلافاها، إنما لأنها تعتقد أن الحل يكمن فى الماضى، كما سبقت الإشارة.

إن هذا المخيال المعطوب ليس قدرا أو مسألة حتمية، فهناك الكثير من العناصر المختلفة التى تغذيه، لكنها مطمورة تحت ركام من التصورات الماضوية الراكدة، وهذه العناصر يجب إخراجها ودفعها كى تؤدى واجبها فى شحن المخيال العام بما يجعل التفكير فى المستقبل لازمة، بل ضرورة يؤمن بها أغلب الناس فى مجتمعاتنا. وهناك دومًا ما يغذى هذا الاتجاه، مثل:

أ ـ المصلحة: فما ينفع الناس ليس للماضى فيه مكان كبير إلا إذا كان إرثا ماديا، إنما كله يرتبط بما يأتى، فكل فرد حين يخطط لتحصيل شىء يكسبه أو يرفعه فإنه فى هذا الفعل لا محالة يفكر فيما هو قادم فى المستقبل، وليس ما تركه خلف ظهره. ولا يعنى الانحياز للمصلحة هنا بالضرورة ميلًا إلى المادية أو المتعة الحسية، لأن المصالح أشمل من حصرها فى هذا، فبعض الناس يجدون مصلحتهم فى امتلاء الروح وجيشان العاطفة، ويجعلون المنافع المادية كلها، مهما بلغت، فى خدمة هذا، ويشعرون بلذة لا تدانيها أخرى وهم يفعلون هذا عن طيب خاطر.

ب ـ الحلم: لا يخلو إنسان من حلم أو أمنية، صغرت أو كبرت، وهذا يجعله مأخوذا دوما إلى ما سيأتى، فالأحلام والأمنيات بِنت المستقبل من دون شك.

ج ـ الخلود: وهو المسألة التى لا يمكن لمخيلة أن تتجاهلها، فالإنسان فى وسط إيمانه الشديد بأن موته حتمى يفكر فيما بعد الموت، سواء كان ما عرف أنه سيكون فى الآخرة، أو ما يبقى منه فى الدنيا، ذرية أو ميراثا أو علما ينتفع به.

إن المنفعة والحلم والخلود تدفع كل فرد إلى التفكير فى المستقبل، وهذا يجعل قدرة أى مخيلة عامة، بما فيها التى فى مجتمعنا، بوسعها أن تدخل فى صراع شديد من الرواسب الراقدة والراكدة فتزعزعها وتدفعها إلى الأمام؛ أو بمعنى أدق، تجعلها تفكر فى المستقبل.

وأعتقد أن هذه الثلاثية تصلح مفاتيح لمنظومة تغذى مخيلة النشء حيال المستقبل.

(ونكمل الأسبوع المقبل إن شاء الله تعالى)

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الثقافة العلمية وإعداد النشء العربى للمستقبل 2 ـ 3 الثقافة العلمية وإعداد النشء العربى للمستقبل 2 ـ 3



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 17:30 2024 السبت ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة
  مصر اليوم - ميرهان حسين تكشف مفاجأة عن أعمالها المقبلة

GMT 01:58 2021 الأربعاء ,01 أيلول / سبتمبر

البورصة المصرية تربح 31.4 مليار جنيه خلال شهر أغسطس

GMT 23:21 2020 الأربعاء ,26 آب / أغسطس

بورصة بيروت تغلق على تحسّن بنسبة 0.37%

GMT 13:08 2020 الإثنين ,24 شباط / فبراير

7 قواعد للسعادة على طريقة زينة تعرف عليهم

GMT 01:27 2018 الإثنين ,26 شباط / فبراير

باحثون يؤكدون تقلص عيون العناكب الذكور بنسبة 25%

GMT 15:46 2018 الأربعاء ,07 شباط / فبراير

كارل هاينز رومينيجه يشيد بسياسة هاينكس

GMT 12:17 2018 الجمعة ,02 شباط / فبراير

Mikyajy تطلق أحمر شفاه لعاشقات الموضة والتفرد

GMT 16:48 2018 الخميس ,25 كانون الثاني / يناير

المقاصة يسعى لاستعادة الانتصارات أمام الانتاج

GMT 14:39 2018 الإثنين ,22 كانون الثاني / يناير

"ثقافة أبوقرقاص" تنظم فعاليات في قرية الكرم وقصر الإبداع
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon