توقيت القاهرة المحلي 14:09:02 آخر تحديث
  مصر اليوم -

تجليات صوفية

  مصر اليوم -

تجليات صوفية

بقلم - عمار علي حسن

1ـ القبض

قلبى مقبوض، خامد فى صدرى. أحس أنه يضغط على دمى بقسوة، لكنه لا يدعه ينفلت. سجن صار هو، بل زنزانة لا فتحة فيها لشمس أو هواء، وجدرانها صلدة وزلقة. يهتز جسدى، ليفك حصارى، لكن لا شىء يزول من خوفى.

أقول له: أخافك.

لكن هذا وجل على عجل. فالمريد التائه، الذى هو أنا، لا يلبث أن تسكنه رغبة فى عبث، وشىء من رجاء، ينفرج له الانقباض. تفتح أبواب السجن. تنزاح الزنزانة الضيقة. تنجلى الظلمة الحالكة. ينهمر النور الآتى من بعيد.

القبض قبضان. شعور بالتفريط، وآخر بالأسى. أسى على ما فرطت فيه، وهو كثير غزير، يُخنق لكنه لا يُميت، وكيف يموت موصول بربه، حتى لو كان يعبث. قبض ليس من نار يتوعدون بها الأشرار، الذين لا يمضون على الأرض هونًا، ولا يجلبون إلى الأرض السلام، ولا يأتون للناس بالمسرة. إنما هو قبض من تذكر تفريط مخلوق فى حق خالقه، وإنكار للنعمة السابغة التى أنعم بها عليه. قبض يصنعه نقص المحبة، أو الشك فى نصاعة القول، وطهر المسلك. قبض لا يلبث أن تهزه النفس اللوامة، التى تسمع صوتًا يأتيها من كل جانب:

ـ لا يخاف من ظن بى خيرًا، ولو فى لحظة عابرة، من ليل أو نهار.

2- البسط

أرجوه فانبسط. تنفرج الشدة، وينفتح السبيل. على باب الرجاء أقف صامتًا، أطرق باب قلبى، وأنتظر. لا أسمع سوى صوت الصمت، فحتى وجيب القلب قد خمد فى غمرة التمنى، لم يمت، لكنه ربما ذاب فى لهف انتظار تقريب وترحيب.

هل أنا لا أزال حيًا؟ أسأل، فالصمت التام موت. تأتى الإجابة:

ـ الرجاء حياة، والبسط فوق الرجاء.

أطمع، وأسأل: هل القبض موت؟

تأتى الإجابة:

ـ عيشة ضنك.

أقول مرتجفًا، حتى تتساقط الحروف تحت قدمى:

ـ لك العتبى حتى ترضى.

فأسمع صوتًا صافيًا:

ـ دام الود مادام العتاب.

ينشرح صدرى، وأبسط كفىَّ، لتستقبلا المطر الذى يهطل أمامى على الطريق، فتنبت أزهار لم أرَ لها مثيلًا. يزول الحذر، وتروح الوحشة. تتساوى فى رأسى كل الأمور، صغيرها وكبيرها، وأيسرها وأعسرها، فأمضى فى تسليم وامتثال مطمئنًا حرًا، لا أستوحش شيئًا، ولا أخاف البلوى.

3ـ الهيبة

متى أهاب حتى الغياب؟

أغيب فلا أحس بجسدى. يذهب عنى ثقله وألمه وأدرانه. لا يتأتى هذا إلا إذا حضرت الحقيقة كاملة، وصرت من أهل التمكين، الذين تسمو أحوالهم عن التغير، ويُمحى من نفوسهم الانشغال بالذات والصفات.

الهيبة فوق القبض، فالمقبوض يشعر بارتجاف قلبه، ويدرك سعيه إلى السكون. أما من يهاب فيضربه خوفه ضربة قاضية، فلا يدع له، ولو لبرهة، أن يحس بما يجرى فى دمه، ولا ما يلوح لعينيه، ولا ما يتناهى إلى أذنيه. تنقطع مع الهيبة الأسباب، فلا تكون هى السبيل إلى إدراك الوجود. يتوقف الزمن، فلا تذكر لما مضى، ولا توقع لما هو آتٍ.

4- الأنس

الأنس فوق الرجاء. هو حضور من غياب. هو زوال الهيبة. هو بهجة وألفة. هو رقص وغناء. هو دوران ودبيب وانشراح. هو تماهٍ فى الفرح، يغلب أى كدر. هو انتصار على الانقباض، يغلب أى يأس، وكيف ييأس من روح الله من يؤمن به، ويحب خلقه.

الله فى قلبى يؤنسنى، فأمضى وفى نفسى أُنسى. أرى من فرط الأُنس كل شىء فى الوجود جميلًا، حتى الأشرار، أراهم سيرجعون يومًا إلى ما ينفع الناس. أرى العصاة واقفين على باب التوبة، وأثق فى أنه سيُفتح لهم يومًا، وأن هذا اليوم آتٍ دون شك. أتسامى عن الصغائر، وأتسامح مع ما يجرى، فهو عندى قدر مقدر، ودور مرسوم للعباد.

5ـ الوجد

أطربنى لحن لم أسمع له مثيلًا، يمتزج فيه الشجن بالفرح، صادف قلبى دون إرادة منى، فلم أعرف وقتها إن كان علىَّ أن أبكى، أو أضحك. كان وِردًا آتيًا من بعيد، له حلاوة وطلاوة، رددته فى سريرتى، فلما غلبنى صدحت به، غير عابئ بالذين يمرون حولى. غاب من عينىَّ وعن أذنىَّ كل شاهد.

حضر سلطان الحقيقة، فاستغرقنى ما أنا فيه. شهدت وذهبت طائعًا وغرقـت. نار الاشتياق انبلجت نورًا، وصار وجدى وجودًا، بينما أفنى فى الحق، فبقيت به أسمع وأرى.

6ـ الخاطر

لا يخلو إنسان من خواطر، ترد إليه دون إرادة منه، فإن جاءت من الله كانت إلهامًا، وإن جادت بها النفس فهى الهواجس، أما إن بثتها الشياطين فهى الوساوس.

من يُلهم يربح، ومن يُوسوس له يخسر، ومن تتصارع داخله الهواجس يسكنه القلق. والإلهام لا يخلو من قلق إن كان فى المعرفة، فالذى يعرف يقلق، والمهجوس يقاوم من أجل أن ينعم بالسكينة، فإن جاءته كان له نصيب من الإلهام.

وكم من خواطر سوداء دمرت، وخواطر بيضاء عمَّرت. ومن بيض الخواطر يولد الإشراق، وهو دفقة تجتاح عقول علماء وأدباء فيبدعون، وعقول أولياء فتكشف لهم الحُجب.

وإذا قال المريد لشيخه: رأيت فيما يرى اليقظان، سيقول له الشيخ: حدثنى عن الخواطر. ولأن المريد لا يرد لشيخه طلبًا، فإنه سيفيض فى شرح خواطره. لكن ليس كل مريد بقادر على فعل هذا. فهناك من يعجز لسانه عن التعبير، ويؤمن أن الصمت أبلغ من الكلام. هناك من تلجمه الهيبة. هناك من يتعلثم، وكأن حروفه قد شُدت إلى صخور ضخمة. هناك من ينسى. هناك من يغرق فى الخواطر، فيمهله شيخه.

لا يختلف فى هذا إن كان الأمر إلهامًا أم هواجس ووساوس. ففى الخواطر يتساوى العجز عن التعبير، عند الذين يكونون مع الله، أو هؤلاء الذين يقفون، على النقيض، مع الشيطان.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

تجليات صوفية تجليات صوفية



GMT 20:18 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

مؤتمر الصحفيين السادس.. خطوة للأمام

GMT 14:59 2024 الثلاثاء ,03 أيلول / سبتمبر

مشاهد مُستَفِزَّة.. “راكبينكم راكبينكم..”!

GMT 06:36 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

… لأي قائمة يسارية ديمقراطية نصوت ؟!

GMT 06:23 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

ماذا قال يمامة؟

GMT 06:16 2024 الأحد ,25 آب / أغسطس

مشكلة إصلاح التعليم

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 22:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

بشرى تكشف عن أمنيتها للعام الجديد
  مصر اليوم - بشرى تكشف عن أمنيتها للعام الجديد

GMT 07:12 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

فينيسيوس الأفضل في العالم لأول مرة وهذا ترتيب ميسي وصلاح

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2019 الإثنين ,09 كانون الأول / ديسمبر

إيهاب جلال يطمئن على فريد شوقي بعد تحسن حالته

GMT 16:26 2019 الأحد ,10 آذار/ مارس

سيدة كل العصور

GMT 06:37 2018 الثلاثاء ,28 آب / أغسطس

تعرف على سعرالمانجو في سوق العبور الثلاثاء

GMT 01:04 2018 الثلاثاء ,01 أيار / مايو

وداع أندريس إنييستا يخيم على احتفالات برشلونة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon