بقلم - عمار علي حسن
تعد السياسة فى جوهرها هى ما يتم حصاده من مكاسب مادية جراء الخطاب السائد الذى يعد بتحسين أحوال الناس، باعتبارهم أصحاب المال والشرعية والسيادة، وفى ركابهم ورحابهم تأتى «المصلحة العامة». وقد يكتفى بعض الساسة أحيانا بالخطاب، أو يعجزون عن تحقيق كل ما يرد فيه من وعود تحملها مقترحات وبرامج وسياسات عامة وخطط واستراتيجيات، ومع هذا يظلون قادرين على تسييس أمور الناس بالحد الأدنى من الموجودات المادية، وبحد واسع من الكلام المشبع بالمجازات والخيالات، وربما الأوهام أحيانا.
وقد تكون مثل هذه السلطات شريرة مخادعة، لا يشغلها إلا البقاء فى كراسى الحكم بأى ثمن، وتدرك أهمية الدعاية فى تحقيقها هذا الهدف. وقد تكون معتقدة فى أن الإبقاء على الأمل فى نفوس الناس باق، حتى لو كان خادعا، وحتى لو كانت المكاسب المادية ضئيلة أو معدومة، أفضل من ذيوع اليأس والقنوط فى نفوس المحكومين.
على الجانب الآخر، وبالنسبة للمعارضين، فإنهم يستريحون أحيانا لمسألة الإيمان بانتصار العدل والحق والخير، والتى تبدو نوعا من المجاز السياسى، سلك بعض الناس دربه منذ أول الخليقة، وتمسكوا به، وعضوا عليه بالنواجذ حتى لو كانوا قلة مستضعفة، ووجدوا من يروق لهم مثل هذا الخطاب طالما هناك من يناضل من أجل تحسين شروط الحياة.
من هنا فإن مثل هذا النوع من المجازات يختلف باختلاف وضع وركائز قوة كل طرف، كما يختلف وفق السياق الذى يعمل فيه الجميع. فمجاز المعارضة فى العالم الثالث يشكل جزءا من تصوراتها وأطروحاتها ومقترحاتها، غير القابلة للتطبيق، لأن الإمكانات والإدارة والمخصصات المادية ليست فى يدها، بينما على العكس من ذلك تماما تكون السلطة أو الحكومة التى تمسك الميزانية بيدها اليمنى والقدرة على التشريع واستعمال البيروقراطية والأمن بيدها اليسرى.
وهنا يثار التساؤل: كيف يتساوى مجاز سياسى قابل للتحقيق مع آخر يحلق فى الفراغ، مع تجريد من يقوم به من أى مقومات للتطبيق، على رأسها امتلاك المشروعية القانونية، فى ظل انعدام الأمل أو ضعفه فى إمكانية تبادل السلطة؟.
فحتى يكون بوسعنا المضاهاة السوية والعادلة بين موقفى الطرفين يجب أولا أن تنطلق من أن هناك ما يسمى «حقيقة موضوعية» و«حقيقة ذاتية»، وأن نقر بما يقع بينهما من صدام أحيانا. وهذه مسألة لا يدركها جزء كبير من عموم الناس فى دول العالم الثالث، ممن يرون أن الحكومة نافعة لأنها تقدم لها بعض الخدمات حتى لو كانت شحيحة، أما المعارضة فهى تكتفى بالكلام، ولا تملك غيره. فمثل هؤلاء لا يدركون جيدا أن المعارضة لا تضع يدها على ميزانية الدولة، وليس بيدها سن القوانين، ولا تملك «الاحتكار المشروع للعنف» حتى تفرض الأمن الاجتماعى، ولا تجد التصورات والمقترحات البديلة التى تفكر فيها وتضعها فى طريقها إلى التنفيذ، وقد تتراجع قدرتها على هذا، وعلى تجهيز رجال الدولة القادرين إلى الإدارة والحكم، فى ظل تيقنها من أن طريقها إلى السلطة مسدود.
ويستجيب هؤلاء فى كثير من الأحيان لخطاب السلطة المجازى حول «عجز المعارضة»، صامين آذانهم عن الإنصات إلى صوت الحقيقة، وهنا يقول جوستاف لوبون:
«الجماهير لم تكن فى حياتها ظمأى للحقيقة. وأمام الحقائق التى تزعجها فإنها تحول أنظارها باتجاه آخر، وتفضل تأليه الخطأ، إذا ما جذبها الخطأ، فمن يعرف إيهامها يصبح سيدا عليها، ومن يحاول قشع الأوهام عن أعينها يصبح ضحية لها».
فى ظل هذا لا يشغل الناس أنفسهم بمعرفة أن بوسع من بيده السلطة والقرار أن يفعل أكثر مما يقدمه، وأن ما هم فيه من بؤس ليس سببه ما تسوقه السلطة من اتهامات لمعارضيها بأنهم «يعطلون المسيرة»، وهو التعبير المجازى الأكثر تداولا على ألسنة أهل الحكم فى بلادنا، إنما لأن الحكومة لا تعمل بالكفاءة اللازمة والمطلوبة، أو أنها لا تبذل الجهد الكافى فى محاربة الفساد كى تصل إلى الناس حقوقهم المشروعة فى المال العام.
نقلا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع