أبيض وأسود، يكاد الرمادى يغلبهما. هكذا تظهر المشاهد فى الأفلام القديمة. مشاهد لم يعد لها وجود لدى أولادى الآن فى زحمة الصور الملونة العابرة، والضحكات العابثة، والحوار الركيك إلا قليلًا.
أتركهم غارقين فى صخب الألعاب الإلكترونية، وأختلى بنفسى، لتتهادى إلى أذنىّ من الذاكرة موسيقى تصويرية عذبة صافية لأفلام قديمة، يرقص لها القلب، وتهيم الروح، وأنا أرى أبطاله كأنهم قد نحتوا من جبال راسية، وأنصت إلى ما يقولونه كأنه يرسم معالم طريقى فى قابل الأيام. أفلام هى بنت أيام الصبا، ظننت أننى سأفارقها بتقدم العمر، فإذا بها تزداد حضورًا كلما مرت السنوات، كأنها محفورة فى نفسى.
ـ أيها الفيلم المنتصر على أيامى.. كيف صرت ملاذًا غارقًا فى الحنين؟
هكذا أسأله، وهو يسمعنى، لكنه لا يرد، ويرد عنه كل من أقابلهم من أصحابى، وأسألهم عنهم فيقولون جميعًا:
ـ من ينسى خدشًا فى روحه؟.
ـ خدش؟!.
ـ خدش لا ينزف، ولا يؤلم، بل ينير، وإن رآه المتعجلون نارًا.
نار هى تدفئ، فهو فيلم يدور فى رحاب أرض ضيقة تتسع فى نفسى قداستها إلى مدى لا أعرفه أين يبدأ؟، وأين ينتهى؟، لكننى أعرف فى هذه اللحظة أنه صار ملاذًا لكثيرين من الضحايا والمتعبين من الاقتصاد.
أنظر إلى أول واحد يصادفنى بعد مشاهدة الفيلم مرات ومرات، وأقول له:
ـ هل تسمع منى شيئًا، يعلمه الله، ولا أعرف سره.
يرفع رأسه إلىَّ، فيرانى، لكنه لا يسمع ما يتردد داخلى، ذاهبًا إلى غيره:
ـ مع الأفلام القديمة يأتينى شىء من الهيام، وانهمار المحبة، والرغبة العارمة فى مفارقة ما بين الناس إلى ما هو سابح فى الملكوت الأعلى. حال تشبه تلك التى تأتينى فى رحاب مسجدى الحسين والسيدة زينب بالقاهرة، ولم أشعر بها فى أى مكان آخر. ربما هى البركة، أو الانتماء، أو الحنين، أو شىء خفى لا أعلمه، لكنى أحبه، وأستريح له.
يتطابق الإحساس إن كان الفيلم يدور فى رحاب المسجدين العتيقين، فبه أحببتهما، قبل أن أراهما، وحين جئت إلى القاهرة بحثت عنهما، مدفوعًا بما تركته الأفلام القديمة فى نفسى، لكنى رأيت وسمعت أشياء أخرى لم تخطر لى على بال، ولم تشملها الأفلام.
على باب السيدة، تذكرت أبطال الأفلام التى أفضلها، لكن شيئًا ما جذبنى إلى الألوان، رغم أنها لا تساوى عندى سوى البهرجة الخادعة، وربما الزيف، بما جعل من حولى يصفوننى بكل ما يجذبنى إلى الخلف فى نظرهم، حتى إن شابًا كان يصطحبنى إلى المسجد العريق، قال لى بلا مواربة، وعينيه فى عينىّ:
ـ أنت تعيش فى الماضى.
توهم هذا الشاب أننى مخلص فقط لغير الأحمر والأصفر والأخضر والأزرق، لاسيما بعد أن قدمت له كراسة متآكلة، سجلت فيها انطباعاتى عن الأفلام القديمة. حين وقعت عيناه على عبارة: «لو عاد أبطال السينما المصرية فى أيام تمكنها إلى الحياة لن يجدوا لهم مكانًا»، ضحك وقال لى:
ـ أحمد زكى، لم يظهر فى أى فيلم قديم، ومع هذا نشاهد تمثيله بشغف، ونحب أفلام سعاد حسنى الملونة، كما نحبها بالأبيض والأسود.
أجبته، وأنا أقهقه، ناظرًا إلى البعيد:
ـ الأبيض والأسود ليسا لونين.
قهقه، وواصل أسئلته:
ـ ما هما؟
لم أجبه فى حينها، لكنى عرفت فيما بعد أنه زمان ومكان وناس غير الذين صاروا يجثمون على صدورنا.
قال لى:
ـ هل تهرب من واقع جديد أليم؟
أجبته فى ثقة:
ـ الجدة ليست فى أيام أُخر تأتى، ووجوه تتبدل.
كنت أدرك جيدًا أننا فى بلد ينسى الناس فساد من لا يودى بهم انحرافهم إلى السجن، إنما إلى القمة. يراهم الناس فى فخارهم الكذوب أهل الأبهة، ولا ينشغلون بما اقترفوه من ذنوب، فقلت له:
ـ فى الأفلام القديمة لم تكن الجريمة تفيد.
ابتسم، وسألنى:
ـ وما الحال الآن؟
أجبته:
ـ اللصوص والقتلة يجلسون فوق أعناق الناس.
ـ هذا هو الواقع.
ـ وفى الأفلام الجديدة أيضًا.
حاولت أن أجره إلى ما سمعته، حيث يجلس المتعبون من التجارب المريرة على أريكة تئن من طول الجلوس، يضغطون أزرة «الريموت»، فيعبرون نشرات الأخبار الكاذبة، والبرامج التى تتوزع على دعايات وشكايات، ليصلوا إلى أول شاشة تتابع فيها الصور البيضاء والسوداء والرمادية. اقتربت منه، وقلت له:
ـ النكوص أفضل من الاكتئاب أو انفجار الشرايين من فرط الغيظ والضيق.
هز رأسه، ثم قال:
ـ الأمر بالنسبة لى مختلف تمامًا، فما ينسيك أنت، يوقط فى نفسى أنا الغيظ والأسى.
تطلعت إليه فى حيرة، لكنه لم يدع حيرتى تطول، فقال:
ـ حين أجلس أمام فيلم قديم يجتاحنى حزن، فإن طالت بى المشاهدة صار اكتئابًا.
سألته مندهشًا:
ـ كيف؟
ابتسم، وأجاب:
ـ فى الأفلام القديمة أمل عظيم انتهى الآن إلى بوار. كل شىء كان واعدًا فى هذا البلد، المدارس والشوارع والمكاتب والعمل والأسواق والمستشفيات. حين أرى كل هذا أتحسر على ما انتهينا إليه، وأفضل الانغماس فى صور أيامنا، أتركها تنهمر على رأسى، لعلها تنسينى الوعد القديم، أو تحيلنى إلى جزء مشوه من الحاضر، فلا يضنينى شىء.
وصمت برهة، ثم واصل:
ـ أفلام اليوم تشبهنا. هذا واقعنا الذى يجب أن نواجهه. أفلام الماضى كانت تحاول أن تجعل الحلم واقعًا. ولاح لنا مريدون يلتفون حول شيخهم بحلقة ذكر فى رحاب المسجد، يطوحون رؤوسهم غارقين فى تمتمات وحمحمات راحت تتصاعد، حتى بلغت أسماع الجالسين. قام بعضهم والتحق بها. آخرون استمروا فى قراءة القرآن. بعضهم تمدد تحت المراوح التى تهدى نسائم خفيفة فى هذا القيظ الشديد.
نظر الشاب إليهم، وعاد ينظر فى عينىّ، وقال:
ـ هذا فيلم قديم أيضًا.
انزعجت لما قاله، إذ كنت قد عقدت العزم على أن أسعى نحوهم، وأنضم إليهم، لكنه خفف من انزعاجى حين قال:
ـ طلب المدد من الله ضرورة، لكن هؤلاء، فى ظنى، يشبهون المشدودين إلى فيلم قديم، يهربون فيه من أيامهم، أو يكتفون بالحسرة على ما فات، دون أن يكون لديهم أدنى استعداد لفعل شىء فى سبيل الخروج من الضيق إلى البراح.
ابتسمت، وقلت:
ـ الوهم أرحم من العجز.
بادلنى الابتسام، وقال:
ـ كلاهما مرض عضال، ولابد من شفاء.
ووجدته يمسك يدى، ويجذبنى نحو الحضرة، حتى انخرطنا فيها. أغمضت عينى مستسلمًا للتمتمات والحمحمات، التى لم تلبث أن ذابت فى إنشاد طلى. ووجدتنى شاردًا إلى شاشة يتطوح فيها الذاكرون، بينما يقف بطل فيلم «اللص والكلاب» حائرًا أمام الشيخ وهو يقول له: «مرحى للدنيا إن اقتصر أوغادها على ثلاثة».
فتحت عينىّ خلسة، ونظرت إلى الشاب من بين قطرات الدمع التى تحدرت فى مقلتىّ، فوجدته مفتوح العينين، يطالع الرسوم الملونة المفروشة فى سقف المسجد، ويبتسم.