تبين الرواية الوحيدة- التى كتبها يحيى السنوار، قائد «حماس» فى غزة، وعنوانها «الشوك والقرنفل»- كيف التحم الناس خارج الفصائل مع الانتفاضة لتصورها الرواية فى ذلك الأب، الذى كان يمنع ابنه من المشاركة فى النضال تجنبًا للأذى، فإذا به يقتحم غرفته ليُوقظه عند العاشرة صباحًا كى يخرج وينضم إلى الغاضبين، وهو من أبيه فى اندهاش شديد، يجعل الراوى نفسه يقول: «إذا أزفت الساعة انطلق المارد من جديد».
وهناك ما يجرح هذه الروح الوطنية الجارفة، حسبما تخبرنا الرواية، بسبب المتعاونين مع الاحتلال، الذين يصفهم الراوى بـ«مستنقع العملاء»، ثم ينشغل بكيفية التخلص منهم. وبدرجة أقل، لكن يمكن تفهمه فى ضوء الضعف الإنسانى، يأتى أولئك الذين لا يريدون للمقاومة أن تثير غضب الاحتلال كى لا يمنعهم من مواصلة الدخول إلى إسرائيل ابتغاء عمل يُعينهم على إعالة ذويهم. ويوجد أيضًا الخائفون على أولادهم من السجن أو القتل، فيدفعونهم إلى تجنب الانخراط فى المقاومة.
تسرد الرواية أيضًا التحولات التى شهدتها القضية، فمن أولئك الذين كانوا يضعونها فى قالب قومى وإنسانى عام، باعتبارها قضية تحرير أرض وبشر، إلى أولئك الذين أضفوا عليها البُعد الدينى، فها هو الراوى يقول حين أنصت إلى شرح أخيه «إبراهيم»، المنضم إلى مجموعة الشيخ أحمد ياسين: «بدأنا نفهم أن للصراع وجهًا آخر غير ما كنا نَعِى وندرك من قبل، فالمسألة ليست فقط مسألة أرض وشعب طُرد من هذه الأرض، وإنما هى عقيدة ودين، معركة حضارة وتاريخ ووجود»، ثم يزيد على هذا قائلًا: «أتساءل فى نفسى: هل من صلاح الدين لهذه المرحلة؟»، وينصت بإمعان إلى قول «إبراهيم»: «جاء دورنا فى المقاومة».
ويُنبئنا «إبراهيم» باختلاف القضية الفلسطينية عن غيرها من قضايا الكفاح المسلح الذى خاضته حركات فى مشارق الأرض ومغاربها، فيقول: «قصتنا مختلفة عن الإيرلنديين والفيتناميين والخمير الحمر لأن بها المسجد الأقصى، يتربع فى قلبها».
فى ركاب هذا تحولت أسماء المناضلين من «الفدائيين» إلى «المقاومين»، وتطور التسليح من عبوات بسيطة تُقصف لها أعواد الكبريت وتختلط بشظايا حديد مبرود، وسلك اشتعال يُستعار من مصباح كهربائى، إلى زجاجات المولوتوف والقنابل البدائية، ومن بنادق قديمة متهالكة يتم إصلاحها وخلفها ذخائر محدودة، إلى بنادق آلية ورشاشات خفيفة، تمدها صناديق ذخائر جديدة.
وتبين الرواية كيف حوّل الفلسطينيون انكسارهم إلى عزة بعد معركة الكرامة 1970 التى هزموا فيها الجيش الإسرائيلى، وكيف انتشوا بعد انتصار 1973، وابتهجوا لوصول أول صواريخ عربية إلى تل أبيب أطلقها الجيش العراقى خلال حرب الخليج. ورغم أن هذه الصواريخ لم تحمل سلاحًا كيماويًّا كما زعم صدام حسين، ولم تكن دقيقة فى تصويبها، فإن رعب الإسرائيليين منها جعل الفلسطينيين ينتبهون إلى ضعف الدولة الإسرائيلية، وهنا يقول الراوى: «صورة الهلع الذى هز عمق الكيان المغتصب قد زادت قناعة الناس بهشاشة هذا العدو».
وبين لحظات الانتشاء تصور الرواية أخرى للإحباط والقنوط، الذى ساد غزة والضفة إثر اندلاع مواجهة بين الفلسطينيين والأردنيين فى معركة إيلول الأسود، وإبرام مصر اتفاقية سلام مع إسرائيل عام 1979، وإجبار المقاومة على مغادرة لبنان بعد اجتياح الجيش الإسرائيلى لها 1982، ثم اتفاقية أوسلو التى عدها كثير من الفلسطينيين إطفاء لكفاحهم من أجل بلوغ أهداف أبعد. لكن هذه المحطات لم تمنع الفلسطينيين من مواصلة الكفاح، فهم، وبإمكانيات بسيطة، كانوا حريصين على إبقاء جذوة القضية مشتعلة، من خلال ترصد جنود الاحتلال وجرحهم أو قتلهم والاحتفاظ بجثثهم أو أسرهم أحياء ليفاوضوا من أجل الإفراج عن أسراهم فى سجون الاحتلال.
ترسم الرواية ملامح حياة الفلسطينيين تحت الاحتلال، فنعرف طقوس أتراحهم وأفراحهم، وعلاقتهم بالمنظمات التى تمنحهم المساعدات، ونقف على مدارسهم، وألعاب أطفالهم، ومعمار بيوتهم وأثاثه البسيط، وأصناف طعامهم وشرابهم، ونشعر بآلام الأمهات وخوفهن حين يُعتقل أبناؤهن أو يُسجنون ويُجرحون أو تُكسر عظامهم ويُستشهدون.
بالتزامن مع هذا نرى جيدًا الممارسات القسرية التى يتبعها الاحتلال بهم، من الرقابة الصارمة بأنفسهم من خلال دوريات التفتيش أو بعملاء زرعوهم وسط الناس، ونطّلع على بعض تفاصيل التحقيقات والمحاكمات والتعذيب فيما وُصف بـ«المسالخ»، ونعرف الكثير عن استباحة البيوت وهدمها، وعن استعلاء الاحتلال واستغلاله للشعب الفلسطينى من خلال جلب فقرائه عمالة رخيصة فى المصانع والمزارع والأسواق.
فضلًا عن هذا تصور لنا الرواية تجريف الأرض وحرق الزرع واقتلاع الأشجار، والاستيلاء على أراضى الفلسطينيين وبيوتهم، وهو ما تصوره إحدى شخصيات الرواية- ويُدعى «جمال»- متسائلًا: «ثم ماذا مع هؤلاء المستوطنين؟، لقد ابتلعوا الأرض، ولا يكتفون، ولا يتوقفون عند حد!».
فى المقابل نرى أعمال النضال والكفاح التى بدأت بمَن تبقى من جيش تحرير فلسطين وانتهت إلى فصائل المقاومة الراهنة. ويسهب الراوى فى شرح كل هذا، فيجعلنا نعيش اللحظات التى مروا بها، ونحس بمشاعر الغضب التى كانت تسرى فى أوصالهم، ونقف على رد الفعل المبالغ فيه للإسرائيليين كلما طُعن أو قُتل واحد منهم، أو أعطبت عربة أو آلية عسكرية لهم.
لا تخلو الرواية من شق إنسانى، إلى جانب هواجس الأمهات ودموعهن السخية، فتضعنا فى صورة العلاقات العاطفية التى تنشأ بين الفتيان والفتيات فى المخيمات، وينقسم الشباب فيها بين مَن يرون أن «الثوار هم العشاق»، وأولئك الذين يتساءلون: «هل من حقنا أن نحب؟!»، ويرون أن هذا النوع من الحب قد يشغلهم عن الحب الأكبر، حيث يقول أحدهم: «يبدو أن قدَرنا هو أن نعيش حبًّا واحدًا فقط، حب هذه الأرض ومقدساتها وترابها وهوائها وبرتقالها»، ثم يضيف: «قصتنا قصة فلسطينية مريرة، لا مكان فيها لأكثر من حب واحد وعشق واحد».
إن مَن يقرأ هذه الرواية يقف على يوميات الوجود الفلسطينى تحت الاحتلال، سواء أيام الحروب المتقطعة بين العرب وإسرائيل أو ما بينهما من مناوشات ومواجهات خاطفة واجتياحات، ليدرك أن العدوان الإسرائيلى على غزة الآن هو مجرد جرعة مكثفة من الأذى، فإسرائيل لم تتوقف أبدًا، على مدار خمسة وسبعين عامًا، عن قتل المدنيين العزل، وهدم البيوت وطرد سكانها منها، وسرقتها والاستيلاء على أرضهم، لكن كل هذا لم يكسر عزيمة الفلسطينيين، بل العكس تمامًا، زاد من تحديهم، وعلمهم كيف يوزعون جهدهم بين التحايل والمسايرة إلى التحدى السافر كى يحافظوا على قضيتهم حيّة عفِيّة.