بقلم - عمار علي حسن
كثير ممن حازوا ثروات طائلة فى غفلة من الحساب والحسبة بالمعنى الدينى، ومن المساءلة والرقابة بالمعنى المدنى، ينظرون إلى الفقراء من علٍ، بأنوف شامخة، وعيون تتسع من فرط الغضب، ووجوه تتغضن ملامحها من الاشمئزاز، وبعضهم تملأ العجرفة رأسه، فتعمى بصيرته، ليسأل نفسه: ماذا لو جمعنا الفقراء فى صحراء مترامية، وأطلقنا عليهم الرصاص، لنتخلص من عبئهم إلى الأبد؟
سأحكى لهؤلاء المتعجرفين حكاية من زمن بعيد، وقعت فى روما القديمة، حين اندلع صراع بين النبلاء وطبقات الشعب الدنيا، التى امتلأت غضبا، ورحلت بالكامل عن المدينة، وأقامت بمتاعها على جبل، فلم يطق النبلاء غيابهم، لأنهم تيقنوا وقتها أن الدولة لا يمكن أن تسير من دونهم، خاصة الجيش الذى سينهار دون عساكر الطبقة الفقيرة، فأرسلوا إليهم رجلا حكيما اسمه مينينيوس أجريبا كان من بينهم قبل أن يصبح من الأثرياء وينضم للنبلاء، لاسيما بعد أن تناهى إلى سمعهم أن الفقراء يزمعون بناء مدينة جديدة ليس فيها أحد من الأثرياء الكسالى المتطفلين ولا الموظفين الفاسدين.
وأراد أجريبا أن يلجأ إلى صورة مجازية تعينه على إقناع الفقراء، فوقف بينهم قائلا: إن أعضاء الجسم غضبت ذات يوم من المعدة، التى لا تفعل شيئا غير التلذذ بما طاب من الطعام، فاتفقوا على معاقبتها فكفت الأيدى عن نقل الطعام إلى الفم، ولم تعد الأسنان تقطع وتمزق وتطحن وتمضغ شيئا، فما كان منهم إلا أن وجدوا أنفسهم بعد مدة وقد هزلت أجسامهم، وفقدوا القدرة على الحركة، وأشرفوا على الموت، وهنا أدركوا أن المعدة حين تهضم، وإن تلذذت، فإنها تمنح كل الأعضاء قوة جديدة.
وأثرت هذه الاستعارة التى جلبت الجسد إلى عالم السياسة فى صورة متماسكة فى نفوس السامعين، فكادوا أن يهموا معه راجعين، بعد أن أدركوا أن للأثرياء، الذين مثلتهم المعدة، فائدة فى الحياة، لكن فجأة انبرى رجل رث الثياب من بين الجموع الهادرة، وتقدم حتى صار فى المقدمة، وقال: تحية لك يا أجريبا، لقد تحدثت عن المعدة والأعضاء فأحسنت، فأقنعت الناس بإمكانية قبول حياة الأثرياء الفارغة، لكن دعنى أعرض قصتك بطريقة أخرى، عامية وفاضحة، فنحن عموم الناس لا ننشغل بتنميق الكلام. وحكايتى هى أن أعضاء الجسم قد تصارعت على من يصير منها ملكا، فقال العقل: أنا الذى أفكر وأوجه، فالمُلك يجب أن يكون لى. وقالت اليد: أنا من يعمل، ويعد النقود، ويطعم، فأنا الملك. وانبرى القلب قائلا: أنا من يضخ الدم فى الجسد وإن توقفت توقف كل شىء، ولذا لا يجب أن يكون الملك لغيرى. وقال العضو التناسلى أنا المعنى بالإنجاب، وإلىَّ يرجع الفضل فى حفظ نسلكم، فضلا عن منحكم اللذة والسعادة، فالأمر يجب أن يسند إلىَّ. وقدم كل عضو ما يسوغ به حيازته للملك، ونسى الجميع المؤخرة، ظانين أنها لا فائدة منها، فغضبت وقررت عقابهم، فأضربت عن العمل حتى سرى السم فى أوصال الجسم، وهنا تعطل العقل عن التفكير السليم، وتراخى القلب فى أداء مهمته، وكلَّت الأيدى والسيقان وراحتا ترتجفان، وتراخى العضو التناسلى، وصار كل جزء من الجسم فى حالة يرثى لها. وقبل أن يتوقف الجسد عن العمل، وتفارقه الحياة، تنادوا فاجتمعوا ليناقشوا أمرهم بأصوات واهنة من شدة الهزال، ووجدوا أن لا حل أمامهم سوى أن يقروا بأن المؤخرة تستحق المُلك، ولا شىء غيرها، وهو ما كان فى نهاية الأمر.
وهتف الناس معجبين بكلام الرجل الفقير، الذى ارتفع صوته وهو يقول لهم: «لا تتركوا أنفسكم للمخادعين الذين يبيعون لكم الوهم، واثبتوا على مواقفكم، فإن كان الأثرياء يروننا مجرد مؤخرة فى هذه المدينة، فإنهم لن يحيوا من دونها، فارفعوا رؤوسكم، واتحدوا فى وجه ظالميكم، ولتعلموا أن حاجتهم إليكم أشد من حاجتكم إليهم».
هذه الصورة المجازية قد تصلح لإقناع المترفين، ممن يعتقدون أن التقدم إلى الأمام يجب أن يكون على أجساد الفقراء والمساكين والمحتاجين والمعوزين. وتزداد قوة الإقناع تلك إن أنصفنا الفقراء وأقررنا بأنهم ليسوا المؤخرة، كما جاء فى الحكاية، بل هم أيضا الأيدى والأقدام والسيقان، كما أن من بينهم الذين يرتقون ليحلوا فى القلب والعقل، إذ إن كثيرا من رجال الإدارة العليا قادمون من بين صفوفهم، وإن نسى بعضهم هذا أو تنكروا فى جحود.
لكن الحكاية، وبعيدا عن الوظائف التى تحددها للطبقات الاجتماعية، تقول بوضوح للأثرياء ومن بيدهم مقاليد الأمور: إياكم ثم إياكم غضب الفقراء، فلا تدهسوهم، بل اعترفوا بحقوقهم، وأرفقوا بهم، قبل أن تجدوا أنفسكم ذات يوم تبكون بين أيديهم خاضعين، لترجوا منهم أن يرحموكم.
نقلا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع