للثقافة العلمية دور كبير ومهم فى بلورة رؤية الناشئة ونظراتهم إلى الذات والمجتمع والعالم والكون، وهى تسهم، ليس فقط فى تكوين جيل قادر على الإنتاج والإنجاز فى مجال العلم والتقنية، وهما مهمان لتطور المجتمعات الإنسانية ونهضتها، لكن أيضا فى سبيل بناء عقول قادرة على تفكير علمى فى كل شىء، وهذا يساعدهم كثيرا على حل مشكلاتهم الحياتية، والتغلب على المصاعب. ويصبح الأمر أكثر إلحاحا فى مجتمع يعانى من سطوة الخرافات والتسيب والاتكالية واللامبالاة والاستسلام، لأى أقدار سلبية يتوسعون هم فى تعريفها وتقديرها.
والناشئة فى بلادنا يعانون من معوقات متراكمة للثقافة العلمية لأسباب عدة، أولها: وجود ميراث طويل من إهمال العلم، والاستهانة بوجوده ودوره، والتقليل من قدرته على انتشال المجتمعات من الفقر إلى الغنى، ومن التخلف إلى التقدم. وبدلا من هذا يتم تعليق التقدم والنهوض فى رقبة حاكم أو قائد سياسى، أو تصور دينى، أو عصبة من جماعة أو تنظيم.
وثانيها: عدم تخصيص الموارد الكافية فى أغلب الدول العربية للبحث العلمى، سواء المخصصات التى تحتاجها التجارب أو تلك التى تساعد المؤسسات ومراكز البحوث على القيام بمهمتها، أو هذه التى تضمن لها هيكلا إداريا كفئا ومتفرغا.
وثالثها: وجود ثقاقات متأصلة تناهض الاتجاه العلمى، وتضع عقبة كؤودا فى طريقه، سواء كانت الثقافات الاجتماعية التقليدية أو تلك المرتبطة بالتدين المحافظ أو المتسلف. ورابعها: عدم وجود مواكبة متسعة وعميقة للتطور العلمى نتيجة ضعف الترجمة أو تأخرها، مع قلة الأموال المخصصة لها.
ولمواجهة هذه المشكلة عدة مسارات متكاملة، يمكن ذكرها على النحو التالى:
1 ـ التعليم: لا تسهم أغلب مؤسساتنا التعليمية بشكل كاف فى إكساب الناشئة مهارات التفكير العليا، المتمثلة فى النقد ثم الإبداع، ففاقد الشىء لا يعطيه، فهى، وعلى مدار عقود من الزمن، حولت التعليم إلى عملية تلقين وحفظ وترديد، وكثير من القائمين عليها يرون فى النقد خروجا عن اللياقة، وتطاولا على ما هو سائد، وعلى من يديرون العملية التعليمية أنفسهم، وتشكيكا فيما تآلفت عليه المؤسسات، والمجتمع الذى يحتضنها، وتعتبر الإبداع مروقا، وتمردا على ما آمنت به الجماعة، والذى على الكل أن يمتثل له.
ربما يكون داخل هذه المؤسسات، على جمودها، من يؤمنون بضرورة أن يتعلم مرتادوها من الصغار، فضائل النقد والأخذ والرد والابتكار، لكن يظل رأى هؤلاء وموقفهم هامشيا ومعزولا، وسيلقون لهذا عنتا من قبل الذين يريدون لكل شىء أن يمضى على حاله.
لقد بات التعليم فى العالم العربى فى حاجة ماسة إلى إطلاق القدرة على التخيل والتخييل، ليس فى مجال الآداب والفنون فحسب، إنما فى العلوم الإنسانية والبحتة أيضا، وكلتاهما تعانى من جمود وتكلس. وهذا لن يتحقق بالطبع إلا بدفع «الخيال العلمى» خطوات أوسع فى مناهج التعليم. ولن يتحقق ذلك إلا بمناهج عصرية، ومعلمين مدربين على تفجير التخيل فى أذهان تلاميذهم، وربط جاد وحقيقى بين التعليم والمشكلات الحياتية للفرد والمجتمع.
وفى هذا المضمار، أعتقد أن البداية تكون فى الصغر، مع تبسيط المفاهيم والأفكار والقيم التى تربط الناشئة بالمستقبل، وتجعلهم يدركون أهمية التفكير فيه، والعمل من أجل بلوغه فى مكنة وقوة.
ولا يمكن لهذه العملية أن تمضى فى طريق سليمة من دون النظر إلى المعلم باعتباره هو محور العملية التعليمية، إذ من خلاله تنتقل المناهج من سطور الكتب إلى أذهان التلاميذ، وهو لم يكتف بما هو مدون فى كتب الدراسة المقررة، إنما يضيف الكثير مما فى رأسه من معرفة، وما فى صدره من ميل إلى قيم أو اتجاهات ومذاهب فكرية.
ولا يمكن الاعتماد على ما حصله المعلم من فهم عن المستقبل وحوله، إنما يجب تأهليه لهذا، عبر دراسة معمقة، وتدريب متواصل، لا سيما أن كثيرا من إجراءات المستقبل وتقنياته تطرأ عليها تغيرات متتابعة، حتى لو ظل الإحساس بضرورته، وبعض القيم المرتبطة به، على حالها.
2 ـ مؤسسات المجتمع: ليس التعليم فحسب هو الذى عليه دور مهم فى إعداد أطفالنا للتعامل مع المستقبل، إنما المجتمع أيضا، الذى يعتبر، فى جانب منه، مؤسسة رحبة تمارس التعليم التكاملى المستمر، أى الذى لا يتوقف طالما بقى الإنسان على قيد الحياة.
وللجماعات الرئيسية، من أسرة وعائلة، أو الثانوية مثل الأندية والأحزاب وزملاء المهن والهواية والحلم المشترك، وظيفة حقيقية فى تجهيز الفرد لما هو آت، خاصة أنها مشغولة بهذا جدا، وذلك من طبائع الأمور، لأن الإنسان لا يمكنه ألا يفكر فى قابل أيامه، إلا إذا بلغ حدا من اللامبالاة بفعل أسباب استثنائية، وحتى فى هذه الحالة، فإنه قد يستفيق، ويأخذ طريقه مجددا فى اتجاه ما هو قادم.
ومؤسسات المجتمع من خلال القيم التى تؤمن بها، ومستوى التعليم الذى وصل إليه القائمون عليها، وإيمانهم بضرورة الارتقاء بأوضاعها، وخبراتها التى علمتها أهمية النمو والتقدم إلى الأمام، تسهم فى صقل أذهان صغار، ولدوا فى أحضانها، وتعلقوا بأهدابها، وربطوا مصائرهم بها، بما يحضهم على فهم ما يطرأ على الحياة من تغير لا يتوقف، وما يلزمهم من ضرورة الاستعداد لمواءمة أوضاعهم مع كل جديد.
(ونكمل الأسبوع المقبل إن شاء الله تعالى).