بقلم - عمار علي حسن
منذ أن تفتحت أذهاننا على السياسة، متابعة واهتماما وفكرا وممارسة، ونحن نسمع عن الجهد الذى تبذله الدولة فى سبيل تحسين أحوال «محدودى الدخل» و«الانحياز للفقراء» و«محاربة الفقر». وكان الاصطلاح الأخير يثير فى مخيلاتنا صورا، بعضها يجعلنا ننفجر ضاحكين فيما بعد، حين نسترد عقولنا الشاردة، ونمعن النظر فيما تخيلناه، ونخضعه للتفكير المنطقى. فقد كنا نتصور أن أفراد السلطة، أو أهل الحكم، يصطفون فى صرامة وحزم بعد أن ارتدوا لباس القتال، يمسكون فى أيديهم سيوفا أو بنادق، ويهجمون على أشباح شريرة تسمى الفقر، فيردونها قتلى، فتضج لهم الساحات بالتصفيق والتهليل، وتزغرد النساء فى النوافد انبهارا بالنصر المبين. كنا نمارس فى تصوراتنا هذه ألعابا خيالية، لا تبتعد كثيرا عن المجاز الساكن فى تعبير «محاربة الفقر»، الذى لا تكف السلطات المتعاقبة عن الإتيان على ذكره، بينما الحقيقة تمضى فى الاتجاه المناقض تماما، إذ يزداد الأثرياء ثراء والفقراء فقرا.
وهنا يقول الكاتب الصحفى الأستاذ رفعت رشاد فى صفحته الشخصية على «فيسبوك»: «أمضيت ربع قرن من حياتى الصحفية كمحرر برلمانى لا أسمع إلا كلاما معسولا عن رعاية الفقراء. ومضت ست سنوات أخرى لى خارج هذه المهمة، والحال لم تتبدل». وهذه الشهادة الميدانية تعززها دراسات علمية لافتة حول الفقر والفقراء، كان من بين الذين أعدوها وقدموها لنا، وهم فى عطف وحدب على الفقراء والمساكين والمعوزين والمشردين، هو الأستاذ الدكتور صلاح هاشم الذى يرى أن قضية الفقر قادرة على أن تصنع طيلة الوقت موضوعات متجددة غارقة فى الأسى، حيث يقول فى مقدمة كتابه «الفقراء الجدد»: «ظننت فى كل دراسة بحثية أجريتها أننى وفيت تلك القضايا حقها، ولكن يبدو أن قضايا الفقراء باتت مرضا عنكبوتيا أو سرطانيا متشعبا، لا يمكن وصفه أو الحديث عنه فى كتاب واحد، أو دراسة بحثية واحدة». وأمام هذا التجدد، الذى تحمل معه قضية الفقر حججها القوية، لا يكون بمقدور السلطة المسرعة صوب اليمين أن تتجاهل مطالب الفقراء، الذين تضاف إليهم مع مطلع شمس كل يوم جديد أعداد غفيرة، وتستعر فى نفوسهم النزعة إلى التمرد والاحتجاج. ونظرا لأن قدرة السلطة على الاستجابة لهذه المطالب تتراخى وتتراجع مع استشراء الفساد وضعف الموارد والإمكانيات أو الإصرار على سياسة الانحياز إلى الأثرياء ومن يتبعونهم، فإن من بيدهم القرار يكون أمامهم خياران: إما مصارحة الفقراء بأن أوضاعهم ستزداد سوءا لأن السلطة عاجزة عن حل مشكلاتهم، أو إظهار التعاطف معهم، وإحياء الأمل فى نفوسهم بأن ما هم فيه من بؤس إلى زوال، ولو بعد حين، وهنا يستيقظ «المجاز السياسى» وتلتهب الاستعارات والتشبيهات والكنايات، لتساعد من يخاطبون الفقراء على إقناعهم، أو على الأقل كسب ودهم مؤقتا، إما لأنها بحاجة إلى تعبئتهم فى الانتخابات، التى يتم استغلال بعض المرشحين فيها الفقر فى شراء أصوات، أو لاتقاء غضبهم العارم، الذى إن انفجر، لا يبقى ولا يذر، وهو أمر غير مستبعد فى الحالة المصرية كما ينبئنا صلاح هاشم فى كتابه «ثورات الجياع.. قراءة سوسيولوجية فى التاريخ المصرى».
وهناك وجهتا نظر حول الفقر تستقران، من دون شك، فى أذهان كثيرين ممن يجلسون فى كراسى الحكم، الأولى هى تلك التى كان يعتقد فيها «هنرى مايو» وهو يصف المهمشمين فى لندن بأنهم «سلالة ضيقة الأفق، بارزة الأشداق، سليطة اللسان، تكره العمل المنتظم، ولا تدخر شيئا للمستقبل سوى كراهية الأغنياء، ولا تتحسب عواقب تصرفاتها، ولا تتصور أن من لا يعمل بوسعه أن يتسول أو يثور»، والثانية هى التى يرد بها صلاح هاشم على «مايو» فيتعامل مع الفقراء على أنهم «عامة الشعب الذين لا يختلفون عن ملاك المال والسلطة سوى فى جودة الحياة»، وهو تصور حقيقى وإنسانى ينجو من النظرات المتعصبة الضيقة، التى تجافى العلم والأخلاق، وتتوهم أن الفقراء صنف آخر من البشر، لا يجب التعاطف معهم، إنما إلقاؤهم بين شقى رحى مجاز آخر يسمى «الإصلاح الاقتصادى»، يطحنهم بلا هوادة ولا تحسب ولا ورع.
نقلا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع