لكل زمن كتابته، فأشكال التعبير ومضامينها تتغير من وقت إلى آخر، ومن مكان إلى آخر، وإن بقى بعضها قادرا على تجاوز الأزمنة والأمكنة، حين يكون فاتن البلاغة، عامرا بالقيم والتصورات الإنسانية التى يحتاجها البشر دون انقطاع. ورغم أن بعض القديم لا يزال صالحا للقراءة والاستمتاع به، والاستفادة منه، فإن طريقة كتابته، أو أسلوبه، يختلف عما يستعد الجيل الجديد لقراءته، أو تلقيه. وتلك هى مشكلة العديد من كتب التراث، التى هى فى حاجة إلى غربلة ليس على مستوى مضامينها فحسب، إنما أساليبها أيضا.
وبعض القديم، من فقه وتفاسير وفكر، ليس سوى إجابة عن أسئلة الزمان الذى كُتب فيه، ولهذا هو لا يصلح أبدا لحل مشكلات وأزمات زماننا، الذى تُطرح فيه تساؤلات جديدة، تتطلب إجابات راهنة، مربوطة بما نمر به، ونعانى منه. وبذا يكون تحكم الأموات فى الأحياء على هذا النحو أمرا مفزعا ومحزنا ومخزيا.
هذا يتطلب منا أن نفكر بالأساس فى الكتابة الصالحة لأيامنا، سواء فى مجال الأفكار والقيم والتصورات والرؤى والمسارات والاقترابات، أو ما يتعلق بأساليب الطرح والتناول والعرض والتداول. لكن هذا لا يكفى، إذ علينا أيضا أن نكون على دراية، ولو جزئية، بما يجب أن نكتبه للمستقبل.
أتصور أن الروائية والشاعرة السودانية آن الصافى، صاحبة روايات «كما روح» و«فلك الغواية» و«توالى» و«قافية الراوى» و«مرهاة»، قد كانت فى طليعة المهتمين بهذه المسألة، حين راحت تكتب عدة مقالات، وتعد دراسات، وتطرح رؤى، حول «الكتابة للمستقبل»، من حيث ما تنطوى عليه، وما تجرى فيه، وما تتهيأ له، وما تتفاعل معه، وما ينبغى أن تكون عليه.
وفى كتاب لها بهذا العنوان تقدم الكاتبة رؤية نقدية لأغلب الأعمال السردية العربية الراهنة فتقول: «فى القرن الحادى والعشرين، أى فى عصر المدن متعددة الثقافات، أى فى عصر التكنولوجيا الرقمية، ما زالت معظم رواياتنا تدور حول ثالوث السياسة والتاريخ والجنس. ويمكننا أن نضيف التهجم الفج على المعتقدات الدينية أيضا. ولا بد من أن نسأل أنفسنا، من سيقرأ هذه الروايات الآن، ومن سيقرؤها بعد عشر سنوات؟، أو بعد خمسين سنة؟».
إنه سؤال مهم، يتطلب من كل حصيف يطلع على ما بدأته آن الصافى فى كتابها أن يطرح عليها سؤالا جديدا، حتى نعرف ما تريده، وفى أى طريق تأخذنا، ألا هو: ماذا تعنين بالكتابة للمستقبل؟، وهنا تأتى إجابتها فى مطلع كتابها أيضا: «يجب التنويه إلى أن الكتابة للمستقبل لا تعنى التنبؤ بما سيكون عليه القادم من أسلوب حياة، بل بما ستكون عليه الحياة الإنسانية حينها من منظور ومعطيات فكرية واجتماعية وثقافية واقتصادية وفكرية وعلمية نعيشها فى الحاضر بكل تفاصيله.
الكتابة للمستقبل تعنى أن نتحرر من التكرار النمطى الذى تعانى منه الروائية العربية المعاصرة». تريد الكاتبة إذن ألا نتوهم أن المغامرة الحقيقية هى كسر التابوهات الثلاثة، أو المحرمات الثلاثة، فى حياتنا: الدين والسياسة والجنس، إنما هى مفارقة هذه الدائرة أصلا، بحثا عن أرض جديدة، غير مأهولة، لم تخط فيها الأقلام حروفا.
وهذا يعنى أنها تفرق جيدا بين «كتابة المستقبل» و«الكتابة للمستقبل»، فالأولى تعنى أن نكتب الآن ما سيجرى بعد عقود وربما قرون، من خلال إطلاق خيالنا، وإيقاظ قدراتنا على التنبؤ، وكهذا جاءت كتابات «الخيال العلمى» و«الخيال السياسى» مثلما جسدته روايات مثل «1984» لجورج أورويل، و«عالم جديد شجاع» لألدوس هكسلى.
أما الثانية فهى الكتابة التى تراعى متطلبات جيل جديد، أكثر تحررا ووعيا وفهما لعلاقة الكتابة بالتقدم والرقى والتفوق، ويمتلك قدرة على التوسل بالتكنولوجيا فى القراءة والكتابة وامتلاك مختلف الطرق للانفتاح على العالم، ما يعنى الإيمان بقيم التعددية الثقافية فى مواجهة المسار الأحادى الإجبارى، والبحث عن الحكمة أيا كان منبعها أو مصدرها أو مكانها، والنزوع الإنسانى الأوسع، والتخلى عن الخصوصيات والهويات الضيقة لحساب رؤى أكثر رحابة، وعدم التبرم من الاختلاف والمختلفين، والميل أكثر إلى الإبداع والابتكار على حساب الحفظ والترديد.
ويتطلب هذا من الكاتب أن يمتلك مهارات التواصل والاتصال، وحسن توظيف المعلومات العلمية، والقدرة على إنتاج نص يصل إلى أذهان كل الأعمار، وإمكانية إبداع طرق سرد ومضامين مختلفة. وقد عمدت الكاتبة إلى أن تضمن كتابها بعض نصوص من رواياتها المشار إليها سلفا، باعتبارها تمثل نموذجا لكتابة المستقبل كما ترى. لكن السؤال الذى لا بد من طرحه فى هذا المقام هو: هل بوسعنا أن نكتب للمستقبل، ونحن نتجاهل الحاضر؟، أم علينا أن نهيئ الحاضر كى يستقبل ويستوعب ويكافئ الآتى؟.
إن كثيرا من كتاباتنا السردية ليس بوسعها أن تتفادى مشكلات مزمنة تعشش وتتشرنق فى مجتمعاتنا، التى لا تزال تعيش زمن ما قبل الحداثة، بل إن جوانب تقليدية وقروسطية تمد أذرعها الثقيلة لتعرقل مسارات الحياة التى يكابدها الناس فى بلادنا العربية من دون استثناء، ومن بينهم المبدعون فى مختلف المجالات.
ويفرض هذا على كثيرين منهم أن يعطوا أولوية لمعضلات حاضرهم، وهم يؤمنون إيمانا قاطعا بأن تطويقها وتفكيكها وتذويبها وعبورها هو الذى يجعل المستقبل يولد على أكف الحاضر دون عناء.
إن الكتاب فى المجتمعات التى صارت متقدمة الآن، قد ظلوا قرونا معنيين بالكتابة عن واقعهم، بكل قبحه ومشكلاته، وواجهوا تابوهات صنعتها الكنيسة وسلطة البابوات، والقصور وسلطة الملوك، والملكيات العريضة وسلطة النبلاء والإقطاعيين، ومع هذا، وربما قبلهم، انخفاض الوعى لدى الأغلبية الكاسحة من الناس. وكان عليهم أن يواجهوا كل هذا على التوازى، موقنين أنهم كلما رفعوا وعى الموجودين فى زمنهم، تمكنوا من تهيئة عقولهم كى تقطع خطوة ولو ضيقة إلى الأمام.
كما أن كثيرا مما كُتب لمعالجة الحاضر الذى كان مقيما فى أوروبا، خلال المدة الطويلة التى امتدت من نهاية القرن الخامس عشر وحتى ما بعد الثورة الفرنسية والـ«ماجنا كارتا»، لا يزال صالحا للقراءة فى أيامنا، من ضمن الأدب الكلاسيكى.
ولا يبدو هذا بالطبع بعيدا عن ذهن الكاتبة، فهى فى كثير من المقالات التى ضمها كتابها تشتبك مع القضايا الأدبية والاجتماعية والإعلامية والتنموية الراهنة، بل إنها تزيد على هذا فى البحث عن اللغة المناسبة للجيل الحالى من العرب، والذى لم يعد مقبلا على القراءة بالقدر الذى يتطلع إليه الكُتَّاب، أو منتجو المعرفة على ألوانها.
وهنا تحلل اللغة المحكية أو الشفاهية المتناثرة على مواقع التواصل الاجتماعى، والمتسربة إلى الكثير من النصوص التى تكتبها النخبة الأدبية والثقافية، وتبحث عن دور الإبداع فى بث القيم الإنسانية النبيلة التى بوسعها أن تساهم فى مواجهة التطرف الدينى والإرهاب، ودور المسرح فى بعث وتعميق الوعى الاجتماعى، وكيفية صناعة التغيير فى هذا الزمن الفارق من حياة العرب.
إن الميزة التى تتمتع بها رؤية آن الصافى عن الكتابة للمستقبل هى الإحاطية على قدر الاستطاعة، وتحرير الذهن من تأثير الأدبيات المستقرة فى مجال الدراسات المستقبلية وغيرها.
فهى تتناول موضوعات عدة تحت هذا العنوان، وتحاول فى كل واحد منها أن تبحث عما يصلح للمستقبل، وفى الوقت ذاته تطرح هذا بعقل حر، تسارع صاحبته إلى تسجيل كل ما عنَّ لها فى عفوية هى أقرب إلى التفكير بصوت مرتفع، أو العصف الذهنى، الذى يمكن أن يوصلها فى نهاية الطريق إلى بلورة رؤية متماسكة حول هذا الموضوع المهم.