بقلم - عمار علي حسن
ليس بوسع مثلى أن يهرب من الأماكن، وهى التى تحل فى نفسه دومًا، لا تبرحها، فقد زرت مدنًا كثيرة فى الشرق والغرب، لكن أجد نفسى فى جوع دائم للقاهرة، لا سيما أماكنها العتيقة. يستبد بى شوق عجيب إليها، إن تأخرت غربتى عنها إلى اليوم السابع، حتى إننى اشتقت إليها وأنا أدور فى شوارع الساحرة باريس، عاصمة الدنيا كما قال عنها الشيخ مصطفى عبد الرازق، الذى قال أيضا: «لو أن للآخرة عاصمة لكانت باريس». فارتباطى بالأماكن عجيب، وأشعر أنها جزء أصيل من نفسى، أليست الحياة مكانا وزمانا وتجربة مفعمة بالتفاصيل التى لا تتوقف إلا بالموت؟.
فى كل فندق حللت فيه وجدت الأشواك تنتظرنى ومعها الأرق، فهذه الأسِرة لا تخفى نظافتها عنى أنها كانت لغيرى بالأمس، فاتقلب فيها متحايلًا على نوم عزيز لا يتهادى حتى ينضح النور من خلف الستائر السميكة، ليخرج لسانه، ويقول لى هامسًا: ارحل يا غريب.
فى القاهرة يتملكنى حنين إلى الأماكن التى عشت فيها وقت صباى، حتى إننى أزورها وحيدا أحيانا، أتجول فى الشوارع الخلفية المتربة، وأطالع الشرفات، وواجهات المحال التى تتبدل بلا هوادة، فأجد كثيرا من تلك التى كنت أعرفها قد غاب، وحلت مكانها أخرى، فهذا كان مطعما تناولت فيه وجبات بسيطة شهية، وصار محلا لبيع الهواتف المحمولة..
.. وهذا مقهى صار «سايبر» تتراص فيه أجهزة الحاسوب لتأكل عيون صبية يحملقون فى الشاشات التى تتبدل ألونها فى سرعة خاطفة، وهذا بيت قطنت فيه قد انهدم وأقيم مكانه آخر شائه غريب عنى، وهذه وجوه لا تزال تومض فى الذاكرة أجدها فى الشوارع وعلى المقاهى، لكن بعد أن امتدت إليها يد الزمن التى لا تبقى أحدا على حاله.
أماكن كثيرة فى القاهرة قطنت فيها أيام العزوبية، لم أستقر فى أى منها سوى بضعة شهور. شقق مفروشة بأثاث بسيط، وحكايات وضحكات لرفاق الصبا، الذين كنت أتقاسم معهم الحلم والرغيف. وحين أجلس الآن لأحصيها أجدها قد وصلت إلى ثلاثة عشر مكانًا، امتدت من حى «عين شمس» فى شمال شرق القاهرة، إلى حى «المنيب» فى جنوبها الغربى، وبين هاتين النقطتين كان أصحاب البيوت يضيقون بى ورفاقى، لأننا كنا مستأجرين فوضويين متعبين للمُلَّاك، فإن كنا لا نتأخر فى دفع الإيجار، فإن غرفتنا أو شقتنا تتحول فى الليل إلى بنسيون، حين يهل رفاق بلا مأوى، لا يمكننا ردهم مهما كانت العواقب.
كان السرير المتداعى يستعد كل ليلة لاستقبال أربعة شباب، ينامون «خلف خلاف» متجاورين، قدمين عند رأس، ورأس عند قدمين، والليل حليم ستار. وهناك من يفترشون الأرض فوق كليمات قديمة أو بطاطين متآكلة الحواف، منقوبة ومثقوبة وممزقة صفحاتها الملونة. وحين كان صاحب البيت يضبط ما يجرى، يطلب منا الرحيل. وكان الرحيل شاقًا، يبدأ بالبحث عن مكان آخر، وينتهى بالوصول إليه فى إجهاد شديد، وبين المحطتين تضنى ظهورنا كراتين كتبى، التى عذبتها معى من كثرة الترحال.
هذه الأماكن التى أكلت سنوات الصبا فى المدينة لا تنسينى ما تركته وراء ظهرى هناك فى البعيد، إذ لا يكف جوع نفسى إلى الريف، مانح البهجة والذكريات الحلوة، فأذهب إليه فى الصعيد والدلتا، دافنًا بصرى فى عمق الخضرة الممتدة والشمس الكسيرة الحزينة التى تهرول نحو الليل الذى ينتظرها هناك خلف القرى. وحين لا أجد لدى وقتا، فى زحمة المدينة، لزيارة الريف، أجرى إلى أى رواية أو قصص قصيرة تدور حول حياة الناس هناك، فأسافر مع السطور إلى أفراحهم وأتراحهم، وأجد نفسى بينهم، غارقًا فى رحاب الأيام التى ولت. وأحيانا أمسك قلمى لأكتب قصصًا أو رواية عن الريف، الراقد فى رأسى، فأستدعى أيامه البعيدة، وناسه الذين رحلوا أو تساقطت أسنانهم، وابيضت شعورهم، وانحنت ظهورهم، وضعفت أبصارهم، وهم يمشون على مهل عند الشاطئ الأخير لحياة مترعة بالشقاء.
وأتذكر حين سافرت للعمل فى أبوظبى أن الحنين كان يجرفنى إلى مقاهى «وسط البلد» والمكتبات وجلسة الصحاب القلائل فى ندوة ثقافية يرتادها الحالمون، وعربات الفول، الذى لا يكف طعمه عن مطاردتى. وفى الليل أحلم دومًا بأنى طائر غريب، يحلق فوق شواشى النخيل. كان حلمًا جميلًا متكررًا فى الغربة، يغادرنى حين عودتى، ثم يعود إن طال السفر.
فى السفر، ومهما كان جمال المدن التى أحل بها، أشعر أننى سمكة أخرجوها من الماء ورموها على شاطئ رملى ألهبه القيظ، أو أننى طائر كان يحلق فى الأقاصى ووضعوه فى قفص داخل غرفة باردة معتمة عطنة، فأجد نفسى أتقلب فى حيرة، طالبا الماء كالسمكة، والفضاء كالطائر، ولا أجد هذا إلا فى رحاب القاهرة، فهى، بكل زحامها ومتاعبها للجسد، فإنها رؤوفة رفيقة بالروح، وهذا هو الأهم.
نقلا عن المصري اليوم
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع