بقلم : عمار علي حسن
لا نعرف على وجه اليقين الأسباب التى تجعل الذاكرة الأدبية والثقافية تُسقط فى مسارها الطويل من حسبانها كتاباً وكتباً، وتبقى أخرى، فقد تعددت هذه الأسباب وتعقدت، وصارت أحيانا حججاً وذرائع، وفى بعض الأوقات تكون لها وجاهة تورث الحيرة، لكن النتيجة واحدة، وماثلة أمام الأذهان، وهى أن هناك من كتب وأجاد، وكان يظن أن ما خطه على الورق سيبقى حاملاً اسمه عبر الأجيال، لكن ثبت أن هذا وهم كبير، وربما كان الوهم هو ظنه أن ما كتبه يستحق البقاء، إذ إن كل من يكتب يعطى عمله قيمة أكبر مما يستحق، وهناك قلة بين أرباب القلم تعرف قدر نفسها، وتضعها فى المكان الحقيقى دون زعم أو ادعاء. هناك سؤال جوهرى فى هذا المقام: هل هناك ارتباط شرطى بين الموهبة والذيوع؟ أو حتى بين غزارة الإنتاج والصيت؟.. ربما لا يجيب كتاب الشاعر والمؤرخ الأدبى شعبان يوسف «المنسيون ينهضون» الصادر عن دار بتانة بالقاهرة أخيرا عن هذا السؤال بطريقة مباشرة، لكنه يمدنا، من خلال عرض وتحليل سير ذاتية وأعمال عشرين روائيا وقاصا وشاعرا وناقدا وأستاذ أدب بالجامعة، بإضاءات مهمة ومفيدة حول تلك المسألة، وهى تكمل، على كل حال، ما سبق أن بدأه فى كتابين سابقين له هما: «لماذا تموت الكاتبات كمدا؟» و«ضحايا يوسف إدريس وعصره»، وفيها يحاول أن ينتصر لأولئك المنسيين، أو بمعنى أدق من يعتبرهم هو أنهم لم يأخذوا ما يستحقون من اهتمام، سواء لشخوصهم أو أعمالهم. وهذه وجهة نظر تنم عن تعاطف وحدب إنسانى لا بأس به، بل لا بد منه، بغض النظر عن اختلاف الآراء حول قيمة وقامة من وردوا فى الكتاب، أو غيرهم، ممن تطول بهم القائمة، ويمكن أن ينضموا ببساطة إلى طابور المهمشين، بلا عنت ولا عناء، فإذا كان الكتاب قد انصب على مصريين رآهم مؤلفه مستبعدين مهجورين مستقرين فى قاع النسيان، فإن القائمة لا تكاد تنتهى إن ضممنا إليها من تم إقصاؤهم، عن عمد أو بتقصير من أنفسهم، كل من كتبوا فى العالم العربى على مدار القرن العشرين، وحتى أيامنا الراهنة.
فى الكتاب تقتحم عيوننا أسماء الطاهر مكى، ونعمات أحمد فؤاد، وأنور المعداوى، وبدر الديب، وزهير الشايب، وحسن فتح الباب، وسيد خميس، وعباس خضر، وعلى شلش، وعادل كامل، وضياء الشرقاوى، ومحمد خليل قاسم، ومحمد كامل حسن، وعباس علام، ومحمود دياب، وحسين شفيق المصرى، وصلاح ذهنى، ومحمد يوسف، ومحمد مهران السيد. وقد يقول قائل إن بعض هؤلاء كانوا من البارزين، وأخذوا حقهم على قدر اهتمام المجتمع بالمثقفين عموما، إذ ليس من المنتظر أن يحظى كاتب بشهرة لاعب كرة أو ممثل، وهذا معيار ينطبق على العالم كله، منذ اختراع السينما ومن بعدها التلفاز، لكن هذه النقطة لم تفت الكاتب، فهو يتحدث عن ضجة أحاطت بشخوص منهم بعض الوقت ثم لفّهم النسيان. والمثل الصارخ لهذا نعمات أحمد فؤاد التى ذاع صيتها حين تصدت للرئيس المصرى الراحل أنور السادات فى قضية «هضبة الأهرامات»، لتتوفى بعد سنوات طويلة من هذه الواقعة وحيدة منسية فى بيتها. وهناك أيضا من لم يأخذ حقه كرائد فى مجال النقد، مثل المعداوى الذى كان أول من كتب عن نجيب محفوظ، وهناك من لم يجد ما يستحقه إبداعه من نقد مثل حسن فتح الباب وبدر الديب ومحمد مهران السيد، وهناك من كان بوسعه أن يصل إلى مكانة كبرى فى الأدب لكنه توقف فى أول الرحلة مثل عادل كامل، ويوجد من بذل جهدا فكريا ونقديا عميقا لكن ما لاقاه من اهتمام لا يكافئ ما حققه من إنجاز مثل الطاهر مكى، وهناك من باع أملاكه فى سبيل الأدب لكن العائد كان ضئيلا مثل سيد خميس، ويوجد متعددو الموهبة مثل زهير الشايب وعلى شلش.
يبقى هؤلاء الذين يسعى الكاتب للانتصار لهم مجرد أمثلة معبرة عن التهميش، إذ كان بوسعه أن يضيف أسماء أخرى أوردها بالفعل فى مقدمة كتابه مثل فكرى الخولى وشهدى عطية وإسماعيل أدهم وأمين عز الدين وصلاح حافظ، لكن النماذج التى طرحها تبدو كافية إلى حد بعيد، وهم من يطلق عليهم «الفئة المهجورة والمستبعدة بدرجات مختلفة».
وتتعدى جدوى هذا الكتاب مجرد طرح جانب من تاريخ الأدب المصرى، لاسيما أن مؤلفه لم يقف عند حد البكاء على ما تبقى من أعمال وسير هؤلاء إنما ربط سيرهم الذاتية وأعمالهم الأدبية والفكرية بسياقها الاجتماعى والسياسى، بل تمتد هذه الجدوى إلى تلقين درس لكل من يكتب حول ما يجب عليه أن يفعله حتى لا يبتلعه التجاهل والإهمال والنسيان فيما بعد، لكن هل بوسع أحد أن يفعل هذا بحق؟ وإن فعل فى حياته فهل يضمن بعد رحيله ألا ينضم إلى قائمة المنسيين؟ ومن ذا الذى بوسعه أن يراهن على البقاء إلا الذين كانت حياتهم مختلفة، وإنجازاتهم فارقة، وأعمالهم لافتة، وتصوراتهم عابرة للزمن؟ وأليس من مجافاة الواقع أن نقارن أياً من هؤلاء بطه حسين ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وعباس العقاد ويوسف إدريس، وهم الذين نجد أخبارا تتوالى عن أعمالهم، وترد أسماؤهم فى مقالات ودراسات، وتعد أطروحات عن منجزهم؟.
إن بعض ما نراه تهميشا قد يكون راجعا إلى الكاتب نفسه، إذ إنه قد يئس مع أول مشكلة صادفته فى مساره الأدبى فتوقف وانسحب مهزوما مثل عادل كامل، أو أنه أبدع عملا واحدا لافتا وكفى، مثل خليل قاسم وروايته البديعة «الشمندورة» أو أن تراجع الاهتمام باللون الذى يبدعه أدى إلى إهمال من تركه مثل حالة محمود دياب الذى تأثر بتراجع المسرح، أو أن سفره الطويل خارج مصر أثر على الالتفات إليه مثل حسن فتح الباب، أو تغير اتجاه الشعر جعل ما أنتجه يتوارى مثل مهران السيد، وهناك من أقعده المرض عن مواصلة النضال الذى ساعد على شهرته مثل نعمات أحمد فؤاد، وهناك من أهمل ورثته فى إعادة نشر أعماله أو تنازعوا عليها فتوقف نشرها، وفى هذا حدث ولا حرج، والبعض لم يستطع نصه جذب انتباه الأجيال الجديدة، علاوة بالطبع على موقف السلطة، ومؤسساتها الثقافية، والتى بوسعها أن تجعل كاتبا فى دائرة الضوء إن أرادت حتى بعد رحيله بسنين طويلة، من خلال إعادة طباعة أعماله، وإدراج بعضها فى المقررات الدراسية، وعقد الندوات والمؤتمرات حوله، ومع هذا ليس بوسعها أن تفرض أحدا على الناس كى يحبوه ويقدروه ويحرصوا هم طواعية وفى حرية كاملة على متابعة أخباره والاحتفاء بما ترك.
لكن يبقى الأهم، والأكثر ديمومة، هو من يرتقى لجدارة العيش فى أذهان الناس وقلوبهم وضمائرهم، حيث يجدون فيما أنتجه، وخلّفه وراء ظهره ورحل، قدرة على الإجادة الواضحة، والإفادة المطلوبة، وهذا لن يتحقق إلا بحرص الكاتب على الإضافة المستمرة، والتجويد الدائم، والإخلاص لما يكتب فقط، شرط أن يكون موهوبا أولا، ثم دؤوباً ثانيا، وأن يجعل ما بينه وبين الناس عامراً بالكفاح من أجل أن تصبح الحياة أكثر جمالاً، والبشر أكثر حرية.