عمار علي حسن
بعد أن صدعتنا السلطة بحديث مستفيض عن «المؤامرة»، وبقول حق أريد به باطل عن «حروب الجيل الرابع»، وطنطنة جوفاء عن «استقلال القرار الوطنى»، ها هى تفتح مصر على مصراعيها أمام «جيش متوحش يغزوها بسلاح المال»، ألا وهو «صندوق النقد الدولى»، الذى وصفه على هذا النحو خبير وأستاذ جامعى ألمانى كرّس قسطا وفيرا من علمه وجهده لدراسة «دور الصندوق فى إدارة الأزمات الدولية»، واهتم كذلك بالعلاقات المتبادلة بين الاقتصاد والسياسة، فأدرك على وجه عميق الآثار السياسية والاجتماعية للوصفات الاقتصادية لهذا الصندوق.
هذا الرجل، وهو أرنست فولف يقول فى كتابه «صندوق النقد الدولى.. قوة عظمى فى الساحة العالمية» بوضوح جلىّ: «من الناحية الرسمية، تكمن وظيفة الصندوق الأساسية فى العمل على استقرار النظام المالى، وفى مساعدة البلدان المأزومة على تلافى ما تعانيه من مشاكل، غير أن تدخلاته تبدو فى الواقع أشبه ما تكون بغزوات جيوش متحاربة، فإنه كان فى كل تدخلاته ينتهك سيادة هذه الدولة أو تلك، ويجبرها على تنفيذ إجراءات ترفضها الأغلبية العظمى للمواطنين، وتخلّف وراءها مساحة عريضة من خراب اقتصادى واجتماعى. وفى كل هذه التدخلات لم يستخدم الصندوق أسلحة أو جنوداً، بل كان يستعين بوسيلة غاية فى البساطة، وبواحدة من آليات النظام الرأسمالى، أعنى عملية التمويل».
وفى كتاب فولف- الصادرة ترجمته ضمن سلسلة «عالم المعرفة» العريقة الشهيرة- تصدمنا عبارة المترجم أستاذ الاقتصاد عدنان عباس على، التى تقول عن الصندوق: «إنه يبتز دولا كثيرة، إنه يجرد أجيالا من بنى البشر من الحلم بمستقبل أفضل.. صارت ممارساته فى دول العالم الثالث تعيد إلى الأذهان تاريخ أبشع عصور الهيمنة الاستعمارية».
أما المؤلف الذى نحتاج الآن إلى قراءة كتابه بعناية، فيقسم تاريخ الصندوق إلى أربع مراحل: الأولى كانت فى خمسينيات وستينيات القرن العشرين، وخلالها بذل الصندوق جهدا فائقا فى سبيل تمكين الدولار الأمريكى من رقبة الاقتصاد العالمى، فصار هو العملة القائدة، وأصبحت المصارف والشركات الأمريكية هى الأكثر استثمارا فى العالم. وقد انتهز الصندوق فرصة تحرر كثيرٍ من الدول من الاستعمار فى الستينيات ومد إليها يده، بدعوى إعانتها على مواجهة الظروف الاقتصادية القاسية التى كانت تعانى منها جراء النهب الاستعمارى الممتد، وكانت هذه هى بداية وقوع تلك الدول فى حبائل الصندوق.
والمرحلة الثانية تعاون فيها الصندوق مع الحكومة العسكرية الديكتاتورية فى شيلى بعد انقلاب بيونوشيه، ومثَّل بهذا الجناح الاقتصادى لتدخلات المخابرات الاقتصادية الأمريكية فى أمريكا اللاتينية بغية محاربة اليسار، وتمكين النمط الاقتصادى الليبرالى. وبدأت المرحلة الثالثة بعد انهيار الاتحاد السوفيتى، إذ إن التحولات الاقتصادية التى جرت فيما كانت تسمى «الكتلة الشرقية» فتحت باباً وسيعاً أمام الصندوق للتغلغل فى اقتصادات هذه الدول، فاتسعت، مع السنين، الهوة بين الطبقات، وتراكمت الثروات فى جيوب قلة محتكرة من رجال الأعمال أو كبار رجال بيروقراطية الدولة. أما المرحلة الرابعة فهى التى نمر بها الآن، وبدأت بأزمة القروض العقارية الأمريكية عالية المخاطر فى 2008، والتى تسببت فى اهتزاز الاقتصاد العالمى برمته، فتدخل الصندوق طالباً إجراءات تقشفية، أدى تطبيقها إلى كوارث اجتماعية متعددة الأبعاد، منها بطالة مفرطة فى صفوف الشباب، وتقوض أنظمة الرعاية الاجتماعية، ومنها التأمين الصحى ودعم السلع الأساسية، واتساع رقعة الفقر، فى مقابل احتكار حفنة من الأغنياء ثروات الدول. وكانت لهذه الأوضاع الاقتصادية المشوهة نتائج جارحة على السلم الاجتماعى والاستقرار وبرامج التنمية، وفتحت نوافذ لا حصر لها لتدخل الولايات المتحدة الأمريكية خصوصا فى شؤون الكثير من الدول، ليس فقط من خلال إدارة وتسيير اقتصادها عبر الصندوق، إنما أيضا بخلق طبقة مترفة ترتبط مصالحها بالعالم الرأسمالى.
لكل هذا يتساءل فولف، وكله عجب: «بأى وجه يحق لمؤسسة أن تتسبب فى تعريض بنى البشر لمصائب لا توصف، ورزايا لا نهاية لها، أن تواصل نشاطها بلا عقوبة، وأن تحظى، مستقبلا أيضا، بمساندة القوى صاحبة السلطان فى زمننا الراهن؟ ولمصلحة من يا ترى يعمل صندوق النقد الدولى؟ ومن الطرف المستفيد من إجراءاته؟».
يقول أهل الحكم فى بلدنا للناس إنه لا سبيل أمامهم سوى الاقتراض من الصندوق، ويزيّنون أقوالهم بكلام معسول عن الانتعاش الذى سيسرى فى أوصال الاقتصاد، والثقة التى سيوليها العالم فينا إن أعطانا الصندوق ما نريده، وهم فى هذا لا يفعلون شيئا سوى التساوق أو مجاراة الدعاية الكاذبة التى طالما قالها الصندوق وهو يستعد لوضع قدميه فى كل البلدان التى دخلها، وأورثها عجزا وعوزا، وفى كل هذا تضليلٌ شديدٌ للشعب، خاصة الفقراء والطبقة الوسطى التى تتحلل الآن، وهروبٌ من مواجهة الحقيقة الصعبة التى تقول إن من يحكمون قد تسربت من بين أصابعهم كل ما أعانت به دول الخليج أو أقرضته، وأمعنوا وأصروا على مشروعات كبرى غير مدروسة اقتصاديا، ونكصوا عما وعدوا به من إصلاح اقتصادى، وضربٍ بيدٍ من حديد على المفسدين، ومواجهة المحتكرين، وتحفيز الطاقة الإنتاجية، وعدم الارتكان إلى الاقتصاد الريعى المتمثل فى السياحة أو رسوم المرور بقناة السويس، وقبل كل هذا دغدغة مشاعر الناس بخطاب أجوف عن المستقبل الزاهر الزاخر الذى ينتظرهم، والذى بدأ بـ«هتبقى قد الدنيا» ثم انتهى بعد سنتين فقط بـ«شبه دولة».
يتناسى أهل الحكم عمداً تلك التجارب التى رفضت الرضوخ لشروط صندوق النقد الدولى، ولاسيما فى دول شرق آسيا، وفى مطلعها ماليزيا التى يقول بانى نهضتها الحديثة، مهاتير محمد، إنه ألقى تعليمات الصندوق فى سلة المهملات، واعتمد على سواعد أبناء بلده، فنجا بها مما لحق بدول أخرى، ظن من يحكمونها أن الصندوق جمعية خيرية، أو مستثمرٌ عادى، أو بنك للتسليف، يراعى ظروف أهل البلد، أو يكفّر، فى خشوع، عن ذنوب تراكمت على مدار عقود من النهب الاستعمارى المنظم لدول العالم الثالث.
ويخفف أهل الحكم من وطأة ما يجرى بحديث عن شروط وضعوها أمام الصندوق، وكأن بوسع المحتاج أن يشترط على من يعطيه، أو كأننا حديثو عهد بما فعله الصندوق فينا من أيام مبارك، أو كأننا لم نقم الدنيا دون أن نقعدها أيام فَكَّر الرئيس المعزول محمد مرسى فى الاقتراض، وكأننا نثق أيضا فى أن ما سيقرضه لنا الصندوق سيذهب إلى مشروعات مدروسة بعناية، وليس إلى مشروعات مظهرية، قصد بها عائدا سياسيا أكلته الأيام، ولم يبق منه سوى الغُرم الفادح.
إن جنرالات المال من خبراء الصندوق الذين يفحصون اقتصادنا الآن ليس لديهم الدواء الشافى، بل هم مثل أطباء بلا ضمير، يطيلون أمد علاجنا فى سبيل استنزاف أموالنا، وحين يتمكن منا المرض لن يرحمونا، ولن يعترفوا بأنهم زادوا فى سقمنا، وخدعونا، وعطّلوا اجتهادنا فى البحث الحقيقى عن مصادر ومنابع أخرى لشفاء تام.