تعيد الذكرى السادسة لثورة يناير إحياء ما طمره النسيان من تاريخ المصريين المديد من احتجاجات وثورات على الطغيان والعوز والمسكنة، لو وضع بعضها فوق بعض لتلاشى الاعتقاد الزائف بأنهم شعب يصبر على الضيم صبراً طويلاً، إما بحكم خوفه على الأرض، أو نزعته الدينية المتأصلة. ويكفينا برهاناً على هذا أن أول ثورة فى تاريخ الإنسانية جرت على ضفاف النيل العظيم، وكانت من الشمول والقوة والعنف إلى درجة أنها هزت ضمائر، وأثارت اندهاش كل من فتشوا فى ماضى مصر ووثائقها، باعتبارها أول دولة عرفها البشر.
ولم يقطع أحد بزمن محدد دقيق لهذه الثورة الخالدة، لكن ما ساقه الحكيم إيبور يشى بأنها قد وقعت إبان حكم بيبى الثانى، فى سنوات تتراوح تقريبا بين 2280 و2132 قبل الميلاد. وكان السبب الرئيسى لهذه الثورة العارمة هو تفشى الظلم واتساع الهوة بين الطبقات، حيث كانت قلة متخمة من فرط الشبع، وكثرة تعانى قسوة الجوع، الذى بلغ مداه، حيث أكل الناس العشب، واكتفى بعضهم بشرب الماء، وعز على الطير أن يجد ما يملأ به جوفه. وحين اشتد الجوع بالناس هاجموا بضراوة قصور أصحاب الجاه والأثرياء، فقتلوا من فيها، ونهبوا ما بها، وأشعلوا النيران فى كثير منها، وصار الشعار الذى يسرى فى البلدات الرابضة على ضفتى النيل هو: «لنُقصِ أصحاب الجاه من بيننا».
وفى أتون هذه الفوضى سقط الحكم بعد أن انهارت الدواوين والمحاكم ونهبت سجلاتها، وذبح كبار الموظفين وصار من بقى منهم على قيد الحياة بلا كلمة مسموعة، وعاشت مصر بلا حكم لمدة تصل إلى ست سنوات، فانتشرت عصابات السرقة والقتل، وأفلست الخزانة العامة، ولم ينج قصر الملك نفسه من النهب، ليجد بيبى الثانى نفسه أمام هذه الحقيقة المرة، بعد أن عاش سنوات طويلة مثقلًا بالأكاذيب، عازلاً نفسه عن شعبه، ومسلّماً إياها إلى حاشية لا تجيد إلا فن النفاق والكذب والتضليل.
ومنذ تلك الثورة العارمة، ومصر لم تهدأ على رغم ظاهرها الذى فسرناه كثيراً بأنه سلسلة من السكون والخمود، ولكن الحركة المصرية هذه لم تأخذ طريقاً واحدة، إنما تنوعت بين الثورات والهبَّات والتمرد وبين العناد والعصيان والمقاومة والإصرار الصارم على التمسك بالثوابت الوطنية، على رغم تعاقب المحتلين، بل استدراج هؤلاء رويداً رويداً حتى يذوبوا فى الروح الثقافية المصرية القوية. وهذه الروح جعلت مصر تحافظ على استقلالها الكامل لزمن مديد يربو على ثلاثة آلاف وخمسمائة عام من عمرها المعروفة وقائعه لدينا والذى يصل إلى خمسة آلاف عام. وهذا الاستقلال إما كان مصرياً خالصاً حكمت فيه البلاد أسر منها، أو أسر أجنبية، تمصّرت، وتشربت روح هذا البلد العريق، وأدركت أنه أمة كاملة، ولذا قطعت تقريباً الحبل السرى بينه وبين الإمبراطورية الكبيرة، أو خففته حتى صار رفيعاً واهياً. وقد حدث هذا أيام الإغريق والرومان، وفى زمن العباسيين والعثمانيين.
وكان هذا الاستقلال فى جله الأعظم ثمرة لروح مصر الوثابة، أو ثورتها المستمرة بأشكال متنوعة، فبعد الثورة ضد بيبى الثانى، قام المصريون عن بكرة أبيهم ضد الهكسوس الغزاة، فخلعوهم من أرض النيل خلعاً، وطردوهم إلى عمق الصحراء البعيدة. ثم جاءت ثورة من نوع آخر، أخذت منحى دينياً وفلسفياً وفنياً خالداً، وقامت على أكتاف إخناتون، الذى نادى بالتوحيد فى وجه تعدد الآلهة، وثار ضد الطقوس الوثنية، التى استغلت الدين فى ظلم البشر، وتأليه الحكام، ولو قدر لهذه الثورة أن تنجح، لتغير تاريخ العالم برمته. ولما غزا الآشوريون مصر وتزعم بسماتيك ثورة ضدهم حتى هزمهم، وأقام على أنقاضهم حكم الأسرة السادسة والعشرين، التى سلمت الراية لأسرة بعدها خاضت هبَّات شعبية جارفة ضد الفرس المحتلين، دفع فيها المصريون ثمناً غالياً من أرواحهم الزكية، فى سبيل الحفاظ على نظام حياتهم وطرق معاشهم، التى حاول الفرس تدميرها، حتى جاء الإسكندر الأكبر فأخرجهم من بلادنا، ولكنه حل محلهم فى احتلالها.
وجاء الدور على الرومان ليذوقوا نوعاً آخر من كفاح المصريين، الذين وجدوا فى تمسكهم بالمسيحية نوعاً من الاحتجاج ضد وثنية الرومانيين، وقطيعة رمزية كاملة وعميقة مع منطقهم الاستعمارى. فلما اعتنق إمبراطور الرومان المسيحية، وجعلها الدين الرسمى لإمبراطوريته مترامية الأطراف، وجد المصريون أنفسهم أمام مأزق شديد، لكنهم سرعان ما وجدوا مساراً لمواصلة كفاحهم، حين ميزوا مذهبهم الدينى عن مذهب الرومان، فتواصل النضال ضدهم، وقدم الأقباط شهداء لا حصر لهم، ولم تتراخ عزيمتهم فى الدفاع عن رؤيتهم الدينية، رغم مغالاة أعدائهم فى اضطهادهم، بل أشعلوا حركات مقاومة متفرقة، فيما هب الصعيد فى ثورة عارمة ضد حكم دقلديانوس.
وأزاح المسلمون ظلم الرومان عن المصريين، لكن قيام الحكام الأمويين والعباسيين بتحويل الدين إلى أيديولوجيا، قاد بعض أمرائهم إلى التعسف مع الرعية، فرفض المصريون هذا التعسف، ولم يكن الرفض مقتصراً على المسيحيين، بل شمل المسلمين، سواء من أصل قبطى أو من العرب الذين سكنوا مصر قبل ظهور الإسلام بزمن طويل. ولكن مصر ولدت ثورات من نوع جديد، حين أخذت على عاتقها الدفاع عن الشرق وعن الإسلام فى مواجهة المغول والصليبيين، من دون أن تنسى الاحتجاج ضد ظلم بعض الحكام العبيديين والمماليك والأتراك، ووصل الأمر إلى ذروته حين خلع علماء مصر خورشيد باشا، الوالى العثمانى، وعينوا محمد على بديلاً عنه.
وتصدى المصريون للحملة الفرنسية (1798 ـ 1801) ببسالة وشجاعة، بعد هزيمة المماليك بسيوفهم الصدئة أمام مدافع جيش نابليون، فقامت هبّتان شعبيتان جارفتان فى القاهرة، أقضتا مضجع الفرنسيين، وأظهرتا لهم أن بقاءهم فى مصر مستحيل، ولاسيما مع فشلهم فى السيطرة على صعيد مصر، الذى خاض أهله نحو اثنتين وعشرين معركة ضد الحملة الفرنسية، علاوة على بعض حركات التمرد والمقاومة التى شملت الصعيد برمته. وحدث الشىء نفسه لحملة فريزر الإنجليزى 1807 الذى انهال أهل رشيد، رجالًا ونساء، على حملته ضرباً من كل مكان، وبأى أدوات ممكنة، حتى فر هارباً.
وتحدى أحمد عرابى الخديو توفيق دفاعاً عن حقوق الضباط المصريين، ثم قاد الفلاحين فى مقاومة عسكرية ضد الاحتلال الإنجليزى، ورغم هزيمته، فإن ما أقدم عليه ألهب الشعور الوطنى لدى المصريين، فشنفوا آذانهم إلى محمد فريد ومصطفى كامل اللذين دعوا إلى الثورة، وتحقق الأمل مع سعد زغلول ورفاقه فى ثورة 1919 الخالدة، التى شاركت فيها كل فئات الشعب المصرى، مختلفة الأعمار والنوع والمستوى الاجتماعى والدين، فحصد المصريون استقلالًا نسبياً ودستوراً رائعاً، وتعبد الطريق أمام ثورة يوليو 1952، التى إن كانت قد بدأت بانقلاب عسكرى، فإنها لم تلبث أن تحولت إلى ثورة اجتماعية كاملة، أعادت ترتيب الطبقات المصرية، وحررت البلاد من النظام الفاسد والاستعمار الغاشم، وألهمت شعوب العالم الثالث برمته روح التحرر والانعتاق، وبعدها جاءت ثورة يناير التى لن تنفك إلا إذا حققت مطالبها فى العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.
وجاءت انتفاضة يناير 1977، لتردع السادات حين اتخذت حكومته قرارات غير مدروسة أدت إلى ارتفاع أسعار السلع الأساسية، حيث هاج الناس وماجوا فى طول البلاد وعرضها، ووصل الأمر إلى درجة أن البعض نصح السادات بالهروب إلى السودان، فلم يفعلها لكنه اضطر إلى التراجع عن هذه القرارات، ثم حاول تشويه إرادة الشعب وحركته فأطلق عليها «انتفاضة الحرامية» لكن الأيام بددت مزاعمه، وها هى الصحف تكتب الآن لتمجيد هذه اللحظة التاريخية.
ولم يتوقف المصريون عن الرفض لأسباب عديدة، حتى إنهم نظموا فى الفترة من بين 2004 و2011 نحو ألفين وخمسمائة احتجاج بطرق شتى، انتهت بانفجار شعبى جارف فى ثورة يناير، التى تشوهها السلطة حاليا، كما فعلت سابقتها، لكن الأيام أيضا ستثبت للناس غير ما قصد المستبدون والفاسدون وسعوا ودبروا بليل. وحين جاء الإخوان إلى الحكم ورأى الناس أن أفعالهم تناقض أقوالهم، وممارساتهم لا علاقة لها بخطابهم، وحين ظنوا أن بوسعهم أن يحرفوا إرادة الشعب نحو مشروعهم الذى لا علاقة له بما ثار عليه الناس فى يناير، خرج المصريون فى 30 يونيو، وزلزلوا الأرض من تحت أقدامهم، ولم ينفكوا حتى أسقطوهم.
إن قوس كفاح الشعب المصرى مفتوح منذ تاريخ بعيد، والساذجون والمغرورون والجاهلون هم فقط من يظنون أن بوسعهم أن يغلقوه إلى الأبد.