هناك من أراد أن ينزع أى قيمة وطنية أو أخلاقية عن ثورة يناير، وبناء على هذا رسم خطة ونفذتها أجهزة أمنية ووسائل إعلام ومؤسسات فى الدولة بتعاون أحزاب وقطاعات جماهيرية لاسيما من أنصار الحزب الوطنى المنحل. وكانت البداية نزع الهيبة والطهر عن ميدان التحرير بدفع قطاعات من البلطجية والمتحرشين والمخبرين واللصوص وبعض الباعة الجائلين والمتسلفين الموالين للأمن وإظهاره على أنه يعج بالفوضى والخطر. وكانت الخطوة الثانية استغلال اتصال عشرة شباب على الأكثر بجهات خارج مصر للتدريب أو التمويل ثم تصوير الأمر على أن كل هذه الملايين التى نزلت تهتف وتدق الهواء بقبضات أيديها مطالبة بإسقاط النظام هى مجرد حشود من العملاء والمرتزقة، وهذا فضلا عن أنه إهانة بالغة للمصريين، فإنه أمر يدعو للضحك، ويدعو فى الوقت نفسه للتساؤل: كيف «حمى» الجيش ما تسميها أبواق موالية له الآن «مؤامرة»؟
إن «المكر السيئ يحيق بأهله» وكل ما جرى كشفه الناس تدريجيا، خاصة بعد الخلاف الذى دب بين أطراف هذه اللعبة. ستظل ثورة يناير، رغم كل الألاعيب التى أرادت للناس أن يكفروا بها لديها قدرة، لا يشعر بها المتنطعون والمتعجلون والمستبدون وأعوانهم، على أن تجرف فى طريقها كل من يلتف عليها، أو يظلمها، أو يتغافل عن مطالبها، ويظن واهما أنه ظفر بما أراد.
أدرك أن هناك من يخاف بالفعل، وخوفه مشروع، لكن هذه المخاوف قد تتراجع إذا نظرنا إلى ما يجرى لنا فى ضوء المقارنة بما حدث لأمم أخرى دفعت ثمنا كبيرا من أجل الحرية. ومن الطبيعى أن يحنق كثير من الناس على الثورة والثوار، لأنهم قيل لهم، وفى دعاية سوداء مكثفة، إن الثورة سبب ما أنتم فيه، مع أن السبب فيما هم فيه هو القوى المضادة للثورة، والنظم المستبدة التى قامت الثورات عليها، فلو أن هؤلاء المستبدين لم يتشبثوا بمواقعهم ومنافعهم ومناصبهم حتى لو على جثة الوطن ما كنا قد ذهبنا إلى ما نحن فيه. ولو أن هذه الأنظمة استجابت لمطالب الإصلاح من البداية ما كان للشارع أن ينفجر. والذين يتوهمون أن الثورة كان من الممكن تفاديها يجهلون مسار التاريخ وحكمته، فالمصريون مالوا إلى الإصلاح أربعة عقود على الأقل، ورفعوا حزمة مطالب إصلاحية فى وجه السلطة لكنها كانت تتجاهل هذا، وإن استجابت فعلى مضض، وبطريقة متقطعة، أو بتلكؤ شديد، وأحيانا كانت تنقض وتأخذ ما أعطته. كان الإصلاح أفضل لو وجد استجابة واستمر فى تصاعد، لكنه حين مات انفجر الغضب، ودون العودة إلى الإصلاح من قبل السلطة الحالية، الذى ينبنى بالأساس على الاستجابة لإرادة المصريين فى تغيير أحوالهم إلى الأفضل، ستنفجر الأوضاع من جديد.
إن ألاعيب الثورة المضادة تتكشف مع الأيام، والشعب والطليعة الثورية المدنية ستوقف كل هذا عند حده فى الوقت المناسب.
( 2)
الذين سألونى عما كتبت عن الثورة فى رواية «سقوط الصمت» وكتاب «عشت ما جرى، أجبتهم دوما: كان الحدث عريضا عميقا هائلا مملوءا بالتفاصيل. كل شخص نزل إلى الشارع هاتفا يحمل رواية على ظهره، كانت لدينا ملايين الروايات والحكايات والقصص، وأمام هذا لا يجد أى أديب راغب فى ألا تضيع منه طزاجة اللحظة أمامه سوى أن يسجل هذه المشاهد، وهؤلاء الشخوص، الذين كانوا جميعا أبطالا، فبطل الثورة كان الشعب، حتى لو كانت تسبقه بخطوات قليلة طليعة ثورية مدنية، لكنها بمفردها كانت عاجزة عن إحداث اختراق لولا نزل الناس بالملايين. ولا أعتقد أن أحدا يمكن أن ينسى روايته أو قصته، وربما هى أهم قصة فى حياته، وهذا ما لا تدركه القوة العبثية الجهنمية الماكرة التى وضعت خطة لتشويه الثورة ونفذتها بعناية، وهى تظن الآن أن خطتها نجحت إلى الأبد.
وعطفا على الأدب أقول: هناك روايات نهاياتها مفتوحة، وكذلك الثورات الشعبية دوما، لا تكف عن تجديد نفسها حتى لو تعثرت سنوات أو شهورا وظنت قوى الثورة المضادة أنها قد ماتت إلى الأبد. إنها العنقاء التى ستخرج من تحت الرماد. إن البعض تخلى الآن عن شعار «الثورة مستمرة» لأنه فهم الثورة على أنها فقط احتجاج مباشر فى الشارع، فلما توقفت المظاهرات ظن أن الثورة لم تعد مستمرة، لكنه لو فهم حقيقة الثورات لأدرك أن رغبة المصريين فى التغيير إلى الأفضل لم تنته، ولن تتوقف، وبالتالى فروح الثورة مستمرة بأشكال أخرى، ولعل ما جرى فى أزمة تيران وصنافير يدل على هذا. كما أن الثورة يمكن أن تستمر بعمل سياسى خلاق ينقلنا إلى الديمقراطية وينهى الاستبداد، ويمكن أن تستمر بالضغط على السلطة كى تستجيب لمطالب الناس، وكل هذا لا يمنع من احتمالات عودة الاحتجاجات المباشرة.
( 3)
حين تكون السياسة رافعة للثورة فلا بأس، فهى هنا تكون إجراء مكملا للثورة أو نابعا منها، ويعزف على وترها، أما إن كانت السياسة عملا ينطوى على الخداع والمخاتلة والتلاعب والالتفاف على الثورة ومطالبها فهنا تصبح جزءا من أفعال القوى المضادة للثورة. وفى كل الأحوال الأهم هو وعى الناس باللحظة وشروطها، والمستقبل ومتطلباته.
(4)
يضيق صدر السلطة الحالية بالاختلاف فى الرأى، وهى لا تدرك أن المجتمعات تقوم على التعدد، وهى ليست وحدات عسكرية تقوم على التوحد والاصطفاف. ونتيجة غياب الخبرة السياسية لدى السلطة رأينا تضييقا شديدا على حرية الرأى والتعبير، وهذا لم يعد مقبولا، ولن ينجح فى ظل ثورة الاتصالات التى نعيشها.
إن الفجوة بين القول والفعل، والخطاب والممارسة، لا تزال قائمة عند السلطة الحالية، وبالتالى أنا لا أصدق أى كلام فى هذا الاتجاه لا يتبعه فعل، سواء حول تمكين الشباب أو رفع المعاناة عن الناس أو تحسن عموم الأحوال. فما نراه الآن أن الكلام فى طريق والفعل فى طريق آخر. وربما يرى البعض أن الوقت لم ينقض بعد، لكن المطلوب كبير جدا حتى يتم تدارك الخطأ الذى ارتكبته السلطة فى حق الشباب والشعب، ويجب أن يكون بأقصى سرعة ممكنة، وإلا فالثمن سيكون فادحا.
( 5)
بعد أن قرأت حوار الفنان حسين فهمى مع «المصرى اليوم» تملكتنى دهشة وعجب منه، إذ بدا يعانى من فصام سياسى، فهو يكره ثورتى يوليو ويناير معا، مع أن الثانية قامت لإنهاء استبداد الأولى وانحرافها عن مبادئها ومسارها، وفى الوقت نفسه هو لا يعتبر ثورة غير «يونيو» مع أنها أعادت «يوليو» من دون عدالة اجتماعية ولا مشروع وطنى ولا هيبة وكبرياء.
( 6 )
حين يسألنى أحد عن المستقبل أقول بلا مواربة: «ما أتعس العيش لولا فسحة الأمل»، هكذا أردد كثيرا فى سرى وفى علنى، وبالتالى لا ينقطع تفاؤلى عن أن النهار سيعقب الليل. لقد هلت تباشير النهار، وجاء ضباب كثيف جعلنا لا نرى النور، ونقول إن الليل قد عاد، لكن هذا الضباب سينقشع، لنرى الشمس قوية عفية تملؤنا بالدفء والسكينة والمحبة. إن البشرية تسير دوما فى اتجاه التقدم، والخير ينتصر على الشر، ولو كان العكس لظل الإنسان يعيش فى الكهوف. نعم الثمن الذى ندفعه كبير، لكن لا شىء يمكن تحصيله بلا ثمن، وأعتقد أن كفاح الشعوب لن يذهب سدى، ولن يضيع بلا جدوى.