توقيت القاهرة المحلي 14:21:48 آخر تحديث
  مصر اليوم -

ورطة الرأسمالية وآفتها.. الإنسان يخدم الاقتصاد

  مصر اليوم -

ورطة الرأسمالية وآفتها الإنسان يخدم الاقتصاد

بقلم : عمار علي حسن

آفة الرأسمالية أنها جعلتنا نعيش لنأكل لا نأكل لنعيش، فحولت الاقتصاد من مجرد خادم لوجود الإنسان إلى مخدوم يأخذ الأغلبية الكاسحة من البشر إلى الجرى وراء تعظيم الأرباح ومراكمة الوفورات المالية، والاستسلام للمقولات التي ترى أن «الموارد أقل من إشباع الحاجات» مع أن ما على الأرض من مقدرات يكفى ثلاثين مليار إنسان، كما تفيدنا بعض الدراسات الحديثة، لكن العيب في التظالم البشرى والاحتكار وقعود كثيرين عن السعى الحثيث وراء الرزق.

ومع الطغيان المادى للرأسمالية وافقناها من دون دراية على أن الاقتصادى الناجح هو «ذلك الشخص الذي يعرف على وجه اليقين أنه ليست هناك وجبة غذاء مجانية»، كما يقول الاقتصادى الشهير ومؤسس النظرية النقدية ملتون فريدمان، وآمنا كذلك بالمبدأ الذي أطلقه آدم سميث «دعه يعمل.. دعه يمر» وبهرنا تصوره الزائف حول وجود «يد خفية» توفق العرض والطلب مع المصالح المتعارضة، كما اعتقدنا بصحة قانون الاقتصادى الفرنسى ساى، الذي يعتقد أن «العرض يخلق الطلب المساوى له»، وتناسينا كثيرا تفنيد كينز لكل هذه الأوهام بعد أزمة الكساد الكبير، التي عرفها العالم عام 1929، ورؤيته العميقة التي تقوم على أن تدخل الدولة واجب لمواجهة الأزمات الاقتصادية، ووجودها ضرورى لوقف الاختلالات الناجمة عن سوء فهم واستخدام الحريات الاقتصادية.

وإذا كانت الرأسمالية قد تمكنت من تجديد نفسها، وتخطى العقبات التي تعترض طريقها بفضل اتكائها على الثورة العلمية والتقنية الرهيبة، فإنها اليوم تقف عند مفترق طرق، وتعيش أزمة كبيرة وليست مجرد وعكة طارئة، يمكن التعافى منها دون مراجعات عميقة لمقولات التصور والمسار الرأسمالى ومعادلاته، التي توهم أحد أبنائها المخلصين وهو فرانسيس فوكوياما أنه يمثل «نهاية التاريخ وخاتم البشر».

وفى ظنى فإن المغالاة في التعويل على المسار الرأسمالى بصيغته الغربية، وطرحه باعتباره الطريق الأوحد للتقدم والخلاص، ساهم في حدة هذه الأزمة. فالرأسمالية ظلت على مدار قرنين كاملين من الزمن يقظة إلى ضرورة تجنب كل ما يؤدى بها إلى طريق مسدود، ومن ثم استفادت من عطاء الاشتراكية وأفكارها، فاهتمت بالجوانب الاجتماعية، وعنيت بتوفير حد الكفاية أو حتى الكفاف للأفراد، عبر دفع إعانة بطالة، والتوسع في برامج التأمين الاجتماعى، وفرض ضرائب تصاعدية، تأخذ من الثرى الكثير ومن الفقير القليل، لمساعدة الدولة على توفير الخدمات التي يتمتع بها الجانبان، على حد سواء، ومن دون تفرقة. وازداد هذا التوجه مع عودة بعض الأحزاب اليسارية إلى الواجهة في أوروبا الغربية، وظهور «الطريق الثالث»، الذي يبدو حاصل جمع الرأسمالية مع الاشتراكية وقسمتهما على اثنين.

كما استفادت الرأسمالية من عطاء العلم، وجنيت حصاد إنفاقها الطائل على البحث، وتحويلها المعامل إلى مستودع سحرى لسد أي عجز أمام طفرات التصنيع التي لا تهدأ، وبذلك تغلبت على تقلص قاعدتها الإنتاجية، وحرمانها من الخامات الطبيعية الرخيصة التي كانت بمتناول يدها في الماضى بفعل حركة الاستعمار الممتدة والمتوغلة.

وفى ظل يقظتها استعاضت الرأسمالية عن الجغرافيا التي انحسرت من تحت أقدامها إثر غروب زمن الاستعمار التقليدى بتعزيز نفوذها الاقتصادى في العالم المعاصر، عبر ربط أطراف رأسمالية صغيرة في بلدان العالم الثالث بمراكز رأسمالية كبيرة في الدول المتقدمة صناعيا، فيما عرف بنظرية «التبعية»، وكذلك عبر تحويل الدول التي استقلت عن الاستعمار إلى سوق رائجة لبضائع الغرب الاستهلاكية، وإلى معامل مفتوحة لتجريب الكثير من النظريات الغربية في الإنسانيات والطبيعيات في آن، وتحويل ممارسات الغربيين وتصوراتهم ومنظومة قيمهم إلى قطب لافت لعيون مليارات البشر في مختلف أرجاء المعمورة.

لكن هذه اليقظة لم تلبث أن قطعتها سنة من نوم عميق، حين تملك الغرور من رؤوس الرأسماليين وأياديهم، فتصوروا أن الليبرالية بشقها الاقتصادى المتجسد في الرأسمالية، وليس بشقها السياسى المتمثل في الديمقراطية، هي قدر لا مفر منه أمام كل من يروم تقدما ورفعة للدولة والفرد، ولم يلتفت هؤلاء المغرورون إلى أصوات تعالت من أفواه بعض المفكرين الغربيين أنفسهم، انتقدت دعاة «المركزية الغربية» الذين يستهزئون مما لدى أبناء الحضارات الأخرى من أفكار وأساليب لتسيير الحياة على الأرض، ويكفرون بـ«شجرة المعرفة الإنسانية»، التي تؤكد أن كل البشر قد شاركوا في صناعة التقدم الراهن، عبر دورات حضارية انطلقت من مصر القديمة ومعها بلاد الرافدين، وانتهت في أوروبا الحديثة، مرورا بالحضارات الإغريقية والرومانية والفارسية والعربية ـ الإسلامية.

ولم يلتفت غلاة الرأسماليين كذلك إلى تحذير الأديان السماوية من تحويل الإنسان إلى عبدللدولار، والانحراف به عن غاية خلقه، ومهمة وجوده على هذه الأرض. وقد لفت هذا الانحراف أنظار بعض الحركات الاجتماعية في البلدان المسيحية، فظهرت حركة لاهوت التحرير في أمريكا اللاتينية، التي لم يرق لها تطويع رسالة المسيح عليه السلام لخدمة الرأسمالية، مثلما فعل ماكس فيبر الألمانى في حديثه عن الروح الرأسمالية للبروتستانتية، وظهرت عن بعد رؤى نقدية عنيفة للمسلك الرأسمالى على أيدى بعض الكتاب والمفكرين الإسلاميين، فهاجم سيد قطب ما سماها «جاهلية القرن العشرين» ووسم أحد كتبه بـ«معركة الإسلام والرأسمالية»، مقدما تصورا مبدئيا عن صراع الحضارات الذي وسعّه صمويل هنتنجتون، وأضاف إليه ومنحه بعض التبريرات النظرية والعملية. كما هاجم عبدالوهاب المسيرى منطق «اللذة» الذي يسيطر على الرأسمالية المعاصرة، وكتب إسلاميون كثر عن خطيئة الانحياز الغربى إلى «الفردية» وراحوا يقدمون البديل، الذي جسده أحمد سيكوتورى في كتابه الصغير المهم «الإسلام دين الجماعة»، وظهرت كتابات لا تحصى تهاجم المعاملات الربوية، وتنبئ بأنها ستقود العالم إلى الهلاك. لكن صوت أتباع الأديان السماوية ضاع وسط إصرار الرأسماليين على التقدم في مسارهم مهما كانت النتيجة، ووسط فشل منتقدى النظريات الاقتصادية الحديثة في تقديم بديل متماسك ومتكامل، والاكتفاء بمقولات فضفاضة تدور في الغالب الأعم حول القيم الأخلاقية.

ولم يلتفت غلاة الرأسمالية أيضا إلى أطروحات الماركسية حول ما تفعله تصرفات الرأسماليين من إذكاء الصراع الطبقى، وكيف يؤدى هذا إلى تحلل النظام الرأسمالى وانهياره تحت أقدام ثورة «البروليتاريا». ولم يقف هؤلاء طويلا أمام حديث الماركسية أيضا عن الاستعمار بوصفه أعلى مراحل الرأسمالية، فاندفعت الجيوش الغربية مرة أخرى إلى العالم الثالث، متخذة من حدث 11 سبتمبر ذريعة لتحقيق رغبة المركب الصناعى ـ العسكرى الأمريكى في إعادة العالم إلى زمن الاستعمار التقليدى، فتم احتلال أفغانستان والعراق والصومال عبر إثيوبيا، والتهديد غير مرة بتطوير الهجوم ليطول بلادا أخرى، ثم تمدد نفوذ حلف شمال الأطلسى «الناتو» شرقا وقضم «المجال الحيوى» لروسيا الاتحادية، لاسيما بعد أن وضعت الولايات المتحدة الأمريكية قواعد عسكرية لها في آسيا الوسطى والقوقاز. ولولا صمود المقاومة في العراق وأفغانستان والصومال، واستعادة روسيا زمام أمرها وبعض مجدها الضائع، لتطورت هذه الحركة الاستعمارية وأعادتنا إلى زمن الإمبراطوريات التي لا تغرب عنها الشمس. ولا شك أن هذا الاندفاع الاستعمارى هو أحد الأسباب الرئيسة للأزمة المالية التي ضربت الولايات المتحدة في عام 2008، وليست مصادفة أن يكون مقدار المبلغ الذي تدخلت به الحكومة الأمريكية لإنقاذ الاقتصاد يساوى حجم تكلفة الحرب على العراق واحتلالها وهو سبعمائة مليار دولار.

لكن يبقى هناك من لم يلتفت أكثر إلى كل ما يجرى، ألا وهم بعض صانعى القرار الاقتصادى في بلادنا، حيث لايزالون مخلصين لولعهم بالاقتصاد الورقى الذي يقوم على وفورات مالية يتضارب بها الناس في البورصات من دون أن تقابلها قواعد إنتاجية حقيقية، ويؤمنون بأن الخصخصة المفتوحة على مصراعيها والدولة المنكمشة إلى أدنى حد، وتنفيذ تعليمات صندوق النقد الدولى، هو طريق الخلاص لمجتمعاتنا من التخلف الاقتصادى.

 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

ورطة الرأسمالية وآفتها الإنسان يخدم الاقتصاد ورطة الرأسمالية وآفتها الإنسان يخدم الاقتصاد



GMT 08:45 2024 الأحد ,08 أيلول / سبتمبر

قضايا انتخابية 2024

GMT 01:56 2024 السبت ,04 أيار / مايو

الأكاديميا الأميركية

GMT 03:53 2024 الأحد ,14 إبريل / نيسان

أميركا واليابان: «شراكة عالمية لا حدود لها»

GMT 03:41 2024 الأحد ,10 آذار/ مارس

شراع دونالد ترامب!

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 22:50 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

بشرى تكشف عن أمنيتها للعام الجديد
  مصر اليوم - بشرى تكشف عن أمنيتها للعام الجديد

GMT 10:34 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

الوجهات السياحية الأكثر زيارة خلال عام 2024

GMT 10:38 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

إطلالات أنيقة وراقية لكيت ميدلتون باللون الأحمر

GMT 10:52 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

بيلا حديد في إطلالات عصرية وجذّابة بالدينم

GMT 09:38 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

نصائح سهلة للتخلص من الدهون خلال فصل الشتاء

GMT 21:45 2024 الأربعاء ,18 كانون الأول / ديسمبر

فجر السعيد تفتح النار على نهى نبيل بعد لقائها مع نوال

GMT 08:46 2024 الجمعة ,20 كانون الأول / ديسمبر

مبابي يكشف سبب منعه من الاستمرار مع سان جيرمان

GMT 20:43 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

الأمير هاري يتحدث عن وراثة أبنائه جين الشعر الأحمر
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon