رأيته خارجًا من بيت الحاج سليم يلهث، جلبابه فى فمه، وعيناه تبحثان عن مخبأ قريب. وسمعت صوتا يناديه: انتظر يا سيادة القومندان. حصل خير، الزير نشترى غيره، والعجل نبيع لحمه، ويا دار ما دخلك شر. وقفت مشدوها، عين إلى رجل يمضى فى غضب ونفور، وأخرى إلى من يلاحقه فى إصرار، محاولا أن يطمئنه بلا جدوى. استوقفته عند انحناء الشارع بعد أن كان من مضى قد اختفى عن ناظرى، وسألته: ما الذى جرى؟ قال بحروف متقطعة من فرط لهاثه: أفتى «أبوالعريف» فأفسد كل شىء.
قهقهت فقد كنت أعرف نتائج ما يقوله. ورغم أن الناس قد اكتووا منه مرات ومرات، ودفعوا أثمانًا تلو أثمان، إلا أنهم، ويا للعجب، كانوا ينصتون إليه، ويصدقونه، ويتوهمون أنه وحده القادر على حل مشكلاتهم.
سألت: ماذا فعل هذه المرة؟ كان محدثى قد هدأت أنفاسه قليلًا، فبانت حروف كلامه جيدًا: أدخل عجل الحاج سليم رأسه فى الزير ليشرب فانحشر، ورفع الزير يهزه يمنة ويسرة، لكنه كان قد التصق به. ولم يعرف أهل البيت ماذا يفعلون، فاقترحت الزوجة أن يلجأوا إلى أبوالعريف، فجاء يجرى، ووقف أمامهم، وضحك فى استهزاء وقال بسيطة، فقالوا له: كيف؟ وطلب سكينًا وذبح العجل، لكن الرأس المذبوح ظل محشورًا فى الزير، فتطلعوا إليه مستجيرين به، فعاد إلى الضحك وقال: بسيطة، فقالوا له: كيف؟ قال بثقة: اكسروا الزير، وفعلوا، لكن الحاج سليم فكر فيما جرى واكتشف أنه قد خسر العجل والزير معًا، فسحب بندقيته غاضبًا، لكن «أبوالعريف» كان قد صار فى الشارع يجرى.
تفتح وعينا على «أبوالعريف» فى بلدنا، وقال لنا آباؤنا إنه قد جاء إليها قبل خمسة وخمسين عامًا، حين استيقظت القرية لتجد شابًا قوى البنية يقف أمام دار العمدة، ويحاصره بأربعة عشر رجلًا مسلحين، ويطلب منه التنازل عن العمودية. وحين سأله الناس عن أحقيته فى هذا، قال لهم: البلد بلدنا، والعمدة غريب. وصدقه الناس، وسلموه كل شىء، بعد أن حكى لهم أن جده هو الذى زرع الجميزة الواقفة عند مدخل القرية تطل على ساحة نلعب فيها، وبنى دار العمدة الفسيحة، وأخرج لهم من حقيبته أوراقا تثبت ملكيته لكل شىء.
وسأله الناس عن اسمه فقال لهم: أنا سيادة القومندان عارف. فعادوا يسألونه: قومندن، قومندان يعنى؟ وأجابهم فى ثقة: اسمى هكذا فى البطاقة الشخصية.. قومندان من ظهر قومندان. وسأله أحدهم فى غيظ: اسم أم مهنة؟ فراح يضحك بقوة حتى ظن الواقفون أن أسنانه ستسقط أمامه، وأجابهم: أنتم أحرار فيما تظنونه. ولم تمض سوى سنوات قليلة حتى اكتشف الناس ادعاءه، فهبوا عليه، وعزموا على أن يلقوه خارج الدار، ويوسعوه ضربًا، لكن من بينهم من أشفق عليه وأبقاه، قائلًا: إن تخلصنا منه الآن سنتصارع على العمودية، اتركوه، حتى نعرف رأسنا من رجلينا.
وظل فيها حتى تقدمت به السن، فعين ابنه مكانه، وكان قد جاء إلى القرية بعد أن تمكن أبوه من العمودية، لكن رصاصة طائشة قتلت الابن، ففرغ الكرسى لغيره. وأبقى أهل القرية على «أبوالعريف»، رغم اكتشافهم كذبه المتكرر عليهم، لأنه قد أقنعهم بأنه يعرف كل شىء. فكانوا إن جلسوا على مصطبة السمر فى الليل، أو عند مدخل القرية حيث الأرض المنطرحة إلى جانب الترعة يسمعون له وهو يخوض فى كل شىء: المحاصيل والسلع والآلات والمدن والدول والقارات والفن والرياضة والفلك والسياسة والبورصة والأمراض والأدوية وكل أصناف السلاح من الفرد الخرطوش حتى القنبلة النووية فإن أتى أحدهم إلى حديث فى الدين أفتى فى كل الأديان: الإسلام والمسيحية واليهودية والبوذية والهندوسية وغيرها.
وفى كل هذا لم يكن يتحدث ولو فى أى مرة بعلم، ولم يعنه أن ينطق أمام الناس معلومة سليمة، ولم يضبط يومًا وفى يده كتاب أو جريدة، فالمهم هو أن يتكلم وهم ينصتون. الشىء الوحيد الذى كان يملكه بالطبع هو قدرته على الكذب القراح والصراح، وخداع الآخرين، وكلما صمتوا ظن أنهم قد صدقوه.
وفى يوم نشبت معركة حامية أمام الجامع لأن خطيب الجمعة قال، دون أن يسمى من يقوله: «عنده جهل يغنيه عن كل علم»، وراح يلمح إلى شخص يظن فى نفسه أن كل ما ينطق به علم وحكمه وأن كل الناس فى القرى المحيطة وحتى قلب المدن منشغلة بما يقول. وأدرك «أبوالعريف» أنه المقصود، فجرى إلى بيته، وجاء ببندقية قديمة، ليقتل شيخ الجامع، لكن الناس حالوا بينه وبين ما يريد.
بعدها أدرك كل أهل القرية أن من يعترض على أكاذيب «أبوالعريف» قد يكون مصيره القتل، فكانوا يجلسون أمامه وهو يفتى فى كل شىء، ناهرًا من يفكر فى مراجعته، ويتظاهرون بالسماع، ويهزون رؤوسهم، ثم يبدون استحسانهم لما لم يسمعوه أصلًا، فكان «أبوالعريف» يضطجع فى جلسته فرحًا بنفسه، ثم يطلق ضحكة رقيعة، يغمض لها عينيه، ويفتح فمه فى بلاهة.
وحين يسأله الناس: أين تعلمت كل هذا؟ لا يجدون لديه إجابة، ولمَّا يلحون فى طلبها، يقول لهم فى صوت فخيم: «يا أولاد الهرمة، أنا لوا.. أعرف فى كل شىء».
ومن يوم أن قال هذا، أطلق عليه بعض الشباب الساخر «الخبير الاستراتيجى»، لكن حين وصلت إلى سمعه همسًا استحسنها، وقال للناس: خبرتى تفوق الحدود، والدنيا كلها شهدت لى بهذا، وما أقوله يُطيِّر النوم من عيون من يصل إلى أسماعهم فى مشارق الأرض ومغاربها.
ولم يكن أحد فى القرية يعرف سر هذه الثقة الغريبة، ولا شىء عن هذه الخبرة، فهو يبدو فى نظر البعض عبيطًا، وفى نظر آخرين مريضًا يستحق الشفقة حتى يتم علاجه. لكن شيخ الخفر كشف السر ذات ليلة حين قال للناس: «أبوالعريف» مجنون. نظروا إليه مندهشين، فعاجلهم: رأيته يكلم نفسه وهو يمضى مترنحًا عند الترعة، وكان يتوقف ثم ينظر إلى السماء ويحدثها. وسأله شيخ الجامع وهو يرتجف عما إذا كان يكلم أحدًا هناك فى البعيد الأزرق، فقال له: توأم روحى يقطن كوكبًا لا نراه، ونتحدث سويًا، ويخبرنى بكثير مما أقوله لكم. وقال له «مخلوف» وحروفه تهتز: لكن لا أحد يقطن أيا من الكواكب التى نعرفها. عندها قال «أبوالعريف» فى ثقة: إنه كوكب فى مجرة أخرى.
وصدقه البسطاء، وقالوا «مخاوى جن» فنفذوا نصيحته فى الزراعة، ففسد الزرع، وفى عشار بهائمهم فلم تمتلئ بطونها سوى بالهواء، وفى بناء البيوت فسقطت دون أن يهزها شىء، وفى أمور الزواج فتطلقت نساء كثيرات، وفى علاج المرض فخر كثيرون صرعى. ولما صارت القرية خرابًا فى خراب، ذهب «أبوالعريف» عند المسجد وجلس القرفصاء والدموع تغرق عينيه. اقترب منه الناس مشفقين عليه، وقالوا له: لا تبك.. كل ما فسد فداك. لكنه واصل البكاء، واحتار الواقفون فى أمره، وكلما سأله أحدهم عن سبب بكائه، وتبرع آخر بالإجابة، هز «أبوالعريف» رأسه نافيًا ما يسمع، فليس أى من هذا هو سبب بكائه. وعندها مد «مخلوف» يده وهز كتفه، وقال له راجيًا: تقطعت قلوبنا، فقل لنا أنت سبب بكائك. عندها رفع «أبوالعريف» رأسه، ومسح وجوههم جميعًا بعينيه، وقال: أخشى عليكم إن مت فلن تجدوا من يحل لكم مشاكلكم العويصة.