بقلم : عمار علي حسن
يعلو صوت السياسة على ما عداه، صانعا ضجيجا هادرا يغطى كل الأصوات التى تخلقها عوامل قد تكون هى الأكثر تأثيرا فى بعض المواقف والحالات من السياسة وتصاريفها. وهذا ما جرى على الدرب الذى سلكه رجل الأعمال دونالد ترامب، منذ أن اختمرت فى رأسه فكرة الترشح للرئاسة، وحتى يتم اليوم استلامه مهام منصبه ليصبح الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة الأمريكية. فالسياق الذى أحاط بحملة ترشحه، والثرثرة التى دارت بشأنها، والعناصر الأبرز التى أدت إلى نجاحه، كانت ثقافية بامتياز، بدءا من القيم العامة التى تسيطر على الدعاية وتبرر التوسع عبر العالم وانتهاء بتعزز الغرائبية والعجائبية فى الأدب والسينما، مرورا بسقوط النماذج الإرشادية، حسب تعبير توماس كون، والانتقال من التفكير الدائرى والخطى إلى الشبكى مع تعزز دور الإنترنت فى حياة البشر، وتراجع قدرة القيادات الثقافية من الأدباء والفنانين على توجيه الرأى العام فى زمن «تويتر» و«فيس بوك».
إن ترامب هو تعبير عن حالة ثقافية تنمو فى الغرب عموما، كانت ظاهرة فى أوروبا، وخفية فى الولايات المتحدة، وها هى تطفو على السطح واضحة جلية كشمس نهار صيف. وترتبط تلك الحالة بتصاعد نمط من القيم والتصورات والتوجهات الثقافية وانتشارها فى أعطاف المجتمعات، لتجذب كل يوم أنصارا جددا لها، وهى بالقطع قيم مضادة لتلك التى ظلت تحرص النخب والإدارات المتعاقبة فى الولايات المتحدة على تصديرها إلى العالم باعتبارها حقائق لا تقبل الجدل ولا الشك، وهى مسألة طالما صورتها الإمبراطوريات التى تحكمت فى العالم منذ الفراعنة وحتى أمريكا، مرورا بالفرس والإغريق والرومان والخلافة الإسلامية وصولا إلى فرنسا وبريطانيا اللتين غربت شمس قوتهما إبان الحرب العالمية الثانية، فكل هذه الإمبراطوريات غلفت نزعتها التوسعية بمسوح دعائية من القيم الإنسانية، التى تتحدث عن تحرير البشر، وفرض المساواة، ورفع الاستغلال، وتحقيق التقدم، وتزكية العمران.
وفى الحالة الأمريكية فإن هذا النمط الدعائى لم يعد ينطلى على أحد فى الخارج، بعد أن بلغ وعى الناس عبر العالم مبلغا عميقا مع ثورة الاتصالات والمعرفة، ولذا لم يتعامل العالم مع مصطلحات من قبيل «التدخل الحميد» و«التحرير» و«إسقاط المستبدين» على محمل الجد، وراح كثيرون ينتقدونها بشكل لاذع، بل يفضحونها، وانعكس هذا على الداخل الأمريكى بمرور الوقت، ولذا فإن الدعاية التى تتحدث عن دور الولايات المتحدة فى نشر قيم الديمقراطية، وإعلاء حقوق الإنسان، وفرض السلام، لم يعد بمكنتها إقناع الأمريكيين مثلما كان يجرى من قبل، ولهذا لم يفلح تبنى الحزب الديمقراطى لهذا الخطاب فى جذب الأغلبية نحوهم، ومواجهة خطاب مضاد لكل هذا، بلا تورية ولا مواربة.
والجانب الثقافى الثانى لفوز ترامب يتمثل فى تأثير الأفكار التى تنطلق فى أوروبا على العقلية والنفسية الأمريكية. فالولايات المتحدة، دولة جديدة على الدنيا، وجذورها تمتد إلى القارة العجوز، لاسيما بعد التخلص من وتهميش سكانها الأصليين من الهنود الحمر، ولذا فكل فكرة تظهر فى أوروبا سرعان ما تعبر المحيط الأطلسى وتنتقل إلى أمريكا، جاذبة إليها الناس. وأغلب الرعيل الأول من المفكرين الأمريكيين والفلاسفة وعلماء السياسة والاجتماع والاقتصاد والنفس هاجروا من أوروبا، وأغلبهم أنتج كتبه الأولى قبل الهجرة، وذهب إلى الأرض الجديدة لنشر أفكاره، وتحقيق ذاته. ولايزال هذا المسار مستمرا، ومن هنا فإن الأفكار التى يبثها اليمين الأوروبى المتطرف فى المجال العام، لا تقف مكانها، بل تطير إلى الأمريكيين، عبر الأخبار التى تتدفق بلا هوادة، والمقالات التى تتوالى فى الصحف والمجالات، والبرامج المتلفزة التى لا تترك شيئا إلا وأتت عليه، والكتب التى تطبع باللغة الإنجليزية هنا وهناك. ومع صعود اليمين الأوروبى فى الحياة السياسية والاجتماعية، وتعزز شعبيته بمرور الوقت، بات يحمل جاذبية أيضا إلى الأمريكيين، وهو ما بان لدى أنصار ترامب، الذى ظنت منافسته هيلارى كلينتون، وفق التفكير التقليدى، أن هذا سيخصم منه، ويبعد الناس عنه، فجرت الأمور على غير ما قدرت وتوقعت.
وقد فوجئ العالم كله بهذا، لأن الناس يعرفون الكثير عن اليمين الأوروبى المتطرف، نظرا لانشغال الأوروبيين أكثر بالتعبير عن آرائهم السياسية، على النقيض من الأمريكيين الذين يهتم أغلبهم بالجوانب التى تمس حياتهم مباشرة، لاسيما فى جوانبها المادية، وهو ما حكم انتخاباتهم المتعاقبة لرؤساء الولايات المتحدة فى الغالب الأعم. لكن ها هى تلك الأفكار تسرى فى عقول أمريكيين كثر، بعد عقود من محاولة ترسيخ الحقوق المدنية والمساواة وقيم المواطنة والحرية، وتدفعهم إلى التصويت لترامب بغزارة، وتمنحه فوزا مريحا بالرئاسة، كسر كل استطلاعات الرأى، وتوقعات المحللين، وتوجهات الإعلاميين. أما الجانب الثقافى الثالث لهذه المسألة فيتعلق بتراجع قدرة المثقفين، لاسيما من الفنانين، على توجيه الرأى العام. فمن قبل كانت هناك معادلة راسخة فى الانتخابات الأمريكية تقول: «المرشح الذى يؤيده مشاهير هوليوود سيفوز». هذه المرة انكسرت القاعدة، فهؤلاء وقفوا تماما ضد ترامب، وأعلنوا رأيهم فيه جهارا نهارا، بل رأى بعضهم أن ترشحه فى حد ذاته يمثل كارثة على الثقافة الأمريكية، ويجرح بقسوة صورة الولايات المتحدة فى العالم، وراجت آراؤهم تلك عبر منابر الإعلام المرئى والمسموع والمقروء والإلكترونى، ومع هذا لم تنل من فرص ترامب. وليس هذا بمستغرب فى ظل ما جادت به دراسات لمست تراجع دور قادة الرأى العام فى كل البلدان، فآراؤهم ومواقفهم صارت محل صد ورد ونقاش وجدل وتفنيد فورى عبر مواقع التواصل الاجتماعى، بما أفقدها بريقها وحجيتها التى كانت تتمتع بها وقت أن كان الحديث من طرف واحد، يتلقاه الجمهور صامتا. فالعالم كله انتقل من التفكير الدائرى والخطى إلى التفكير الشبكى التفاعلى الذى يمنهجه الإنترنت بعنقوديته وتوالده وانشطاره وتوزعه على ألوان عديدة من المعارف والمعلومات والأفكار، وبات بوسع شخص مجهول أن يشغل «تويتر» و«فيس بوك» أياما بصورة أو خبر أو فيديو أو تعليق أكبر من أى فنان تبلغ شهرته الآفاق.
والجانب الرابع يرتبط بانتشار النزوع إلى الغرائبية والعجائبية فى الأدب والفن، فقد شهدت السنوات الأخيرة إقبالا شديدا على هذا الاتجاه، وانعكس فى الشعر والرواية والسينما الأمريكية بنسبة كبيرة. وقد مثل ترامب فى حد ذاته صورة لهذه التوجه، ليس فقط من زاوية الخطاب الذى يتبناه، بل أيضا مسار حياته، وطريقة عيشه، ونظرته إلى المجتمع، وحديثه فى السياسة، الذى يكسر دوما المألوف والمعتاد، فى نبرته وجرأته وألفاظه وصوره وخيالاته، والصدمات والمفارقات التى يصنعها فى عقول متابعيه ونفوسهم.
ويتعلق الجانب الخامس بالتمرد على النخبة السياسية التقليدية، وهو تمرد وعصيان ثقافى أكثر منه سياسى. فجمهور من الأمريكيين، لاسيما فى أوساط الشباب، أصابهم ملل شديد من النخبة القديمة، التى تتبادل الأدوار والمواقع والمناصب فى البيت الأبيض وغيره من المؤسسات السياسية الأمريكية، وقد أرادوا بانتخاب ترامب أن يعبروا عن تمردهم هذا، الذى كمن فى صدورهم زمنا، ولم يجدوا فرصة لإخراجه، لأن المتبارين فى الانتخابات السابقة كانوا متقاربين أو متشابهين فى الخطاب والتوجهات. وهذه النزعة موجودة بطريقة ظاهرة فى المجتمعات الأوروبية، حيث يعبر الجيل الجديد عن سأمه من اليمين واليسار التقليديين معا، ويرى أن الفروق بينهما شكلية، بل واهية، ولذا تمكن اليمين المتطرف من أن يجذبهم إليه، وهو ما انسحب على الحالة الأمريكية، ممثلة فى دونالد ترامب.