بقلم عمار علي حسن
كان أهم سؤال طرحه «طرابيشى»: «هل العقل العربى الإسلامى قد استقال بفعل عيب ذاتى أم بتأثير خارجى؟»، وكانت إجابته الناصعة هى أن «الآليات التى أدت إلى استقالة العقل وغروبه فى الحضارة هى آليات داخلية نابعة من انكفاء ذاتى ومن انكماش لهذا العقل على نفسه وليس من غزوة خارجية». وهو فى هذا يرد على مسار استغلظ فى تاريخنا الفكرى، يرتكن إلى أن كل ما جرى لنا هو بفعل تآمر الآخر علينا، وهو تصور ازداد غلظة واستحكاماً مع اندلاع الاحتجاجات والانتفاضات والثورات فى بعض البلدان العربية، إذ لم تلتفت السلطة ومثقفوها وإعلامها إلى الحقيقة، بل راحت تعمى عليها لتعزو ما جرى إلى خطط وضعت وراء البحار لتفكيك بلادنا، وليس إلى توحش الفساد، وتجذر الاستبداد، وغياب أى أمل فى الإصلاح السياسى والاجتماعى.
لهذا كان من الطبيعى أن يرى «طرابيشى» أن «كل حديث عن الإصلاح السياسى، مع الإبقاء على المنظومة المعرفية القديمة والمفاهيم التقليدية، إنما هو نقش على ماء»، ففى هذه المنظومة نفسها يسكن المرض، ولا سبيل إلى الشفاء إلا بتفكيكها، والتخلص من أى حمولات ثقيلة بها، تشد إلى الوراء، وطالما نحن نجيب عن أسئلة حاضرنا بمقولات من القرون الغابرة، كانت فى أساسها إجابة عن أسئلة طرحها من عاشوا فى زمان بعيد، فلن نتقدم إلى الأمام، وهذا هو بيت الداء الذى يضع «طرابيشى» يده عليه فيقول: «ثقافتنا هى انغلاق على مفاهيم من عصور سابقة كانت فعالة آنذاك، لكنها اليوم بلا أدنى فعالية، نحن نريد أن نجيب عن أسئلة الأبناء بأجوبة الأجداد».
ويرفض «طرابيشى» أن تقام ديمقراطية شكلية، كما أنه لا يستلب حيال الديمقراطية السياسية باعتبارها الخلاص، ففى الوقت الذى يرى أن «كبرى مشكلات العالم العربى أننا اختصرنا الديمقراطية إلى أحد مظاهرها، وهو صندوق الاقتراع» يطالب بإطلاق الحريات فى الفكر والدين والقيم الاجتماعية، باعتبار هذا هو الأساس الذى تنبنى عليه الديمقراطية السياسية إن كانت هناك إرادة حقيقية فى إقامتها على نحو سليم، وهنا يقول: «مجتمع يريد الديمقراطية فى السياسة ولا يريدها فى الفكر ولا على الأخص فى الدين، هو مجتمع يستسهل الديمقراطية ويختزلها فى آن معاً».
لقد أخلص «طرابيشى» للانفتاح على الحداثة، دون أن ينحى التراث جانباً، إنما طالب بمساءلته دوماً، ونقده طيلة الوقت، عبر استنطاقه بأجوبة جديدة على أسئلة مغايرة لتلك التى طرحها الأقدمون، وصياغته فى إشكاليات معاصرة، تمس ما نعيشه ونكابده من مشكلات، وهذا لن يتم إلا بالاستمرار فى النقد.
وهاجم «طرابيشى» المثقفين العرب ورآهم عصابيين ونكوصيين ومرتدين عن النهضة، وحملهم جزءاً من مسئولية ركود الزمن العربى ليصبح كالقدر المستعصى على التحكم به، وبذا ظل هو، كمثقف مغاير، معنياً طيلة الوقت ببناء حصن إبستمولوجى داخل العقل العربى الإسلامى، ليزيد من مكنته على التفاعل الخلاق مع العالم المعاصر الذى يعلى من قيمة وقامة العقل والأنسنة والتسامح.