بقلم - عمار علي حسن
إذا كان هناك من يعتقد فى ضرورة التعبير عن الفكر والممارسة السياسية لفظا، ويبرر الصياح والجدل العارم فى هذا، فإن الصمت فى السياسة من أجل التفكير قبل اتخاذ القرار، ووضع الخطط والبرامج، وتدبر الحاكم حال المحكومين، ضرورى أيضا. ويظن كثيرون أن الصمت فى أغلبه هروبٌ واستكانة، ومن ثَم فإن حظ المقاومة فيه ضعيف إن لم يكن منعدما. فالمعنى الذى يأتى إلى الأذهان من الوهلة الأولى حين تسمع كلمة «مقاومة» أو «نضال» ينصرف دوما إلى أمر مرتبط بالحركة أو الفعل، الذى يتم توزيعه إلى العنف بشتى درجاته، أو إلى اللاعنف الإيجابى الذى يعتمد على وسائل عدة من الضغط والاحتجاج المدنى.
لكنّ هذه نظرة أحادية الجانب، فالصمت إن كان آفة الشعوب المغلوبة فقد يكون حِكمتها فى الوقت نفسه، حتى تملى للظالم ثم تأخذه بعد أن يكون قد تردى فى الفساد والاستبداد، بل يمكن تحويل الصمت من طاقة سلبية تنطوى على الاستسلام أو الاستلاب أو الترقب أو اللامبالاة إلى فعل مقاوم، قد لا يقلّ فى بعض الحالات عن النضال المسلح أو الاحتجاج المدنى القوى. وهناك حالتان أساسيتان كان فيهما الصمت مقاومة جلية بكل المقاييس. الأولى ترتبط بصمت المحكومين عن التجاوب مع نداء السلطة المستبدة لهم، حين تسعى إلى حشد الجمهور حول خطابها وبرامجها، ولاسيما فى اللحظات الحرجة التى تجد فيها هذه السلطة نفسها مضطرة إلى استدعاء الناس بعد طول تغييب وتذكرهم بعد طول نسيان، وذلك وقت أن تكون مهددة بالانهيار أو الرحيل، أو تكون معرضة لضغوط قوية تجعلها تتآكل، وتشعر أن وضعها قد بات فى مهب الريح.
وتتوقع السلطة فى هذه الحال أن الناس ستستجيب لها طواعية، إما خوفا أو طمعا، وقد تدفع التابعين لها للنزول إلى الشارع لتحفيز الجماهير الغفيرة على الخروج من الصمت والترقب، والانخراط فى مساندة النظام الحاكم. فإذا ردّ الناس بالصمت، وأداروا ظهورهم للسلطة، وأشعروها بأنها باتت مجردة من أى شرعية، وأن الشعب يرفضها كلية، فإن سلوكهم هذا ينصرف إلى المقاومة، ولاسيما إن حدث شعور جمعى بهذا الموقف، ووصلت فحوى الرسالة إلى السلطة وأتباعها. وتزداد فاعلية هذا الموقف إن كانت السلطة مُقدِمَة على خطوة تحتاج فيها إلى موافقة الناس عليها، ولاسيما أوقات الاستفتاءات على شخص الحاكم أو لحظة تمرير قوانين وخطط وبرامج معينة، أو وقت يشعر فيه من بيدهم الأمر أن هناك حالاً من الرفض المكتوم لسياساتهم، أو حتى وجودهم على قيد الحكم. ففى مثل هذه الظروف تلهث السلطة وراء النداء على الناس، فإن أبَوا واستعصموا بالصمت، فإنها تنزعج انزعاجا شديدا، وتعاود النداء عبر آلتها الدعائية، فإن جاء الرد على حاله الأولى، فلا تجد السلطة بُداً من تقديم تنازلات متدرجة، تصب فى نهاية المطاف فى مصلحة الشعب، فإن استهان الناس بهذه التنازلات ولفظوها فقد لا يكون أمام هذه السلطة من طريق سوى الاستعداد للرحيل، أو أن تفقد أعصابها وتنزلق إلى ممارسة عنف مفرط ضد الشعب، فتدفعه إلى مقاومتها بغير الصمت، ومن ثم تدق المسمار الأخير فى نعشها، ولاسيما إن ظهر بديل فى اللحظة المناسبة لم يقابله الناس بصمت، إنما التفوا حوله وباركوه وبُحّت أصواتهم فى مساندته.
أما الثانية فقد سطرها مناضلون سياسيون عبر تاريخ الإنسانية المديد، حين التحفوا بالصمت وقت أن كان أعداؤهم يطلبون منهم التحدث. وقد حفل أدب السجون وحوت مذكرات السجناء من مختلف الانتماءات السياسية العديد من القصص التى تبين كيف تحمّل بعض المعتقلين التعذيب الجسدى الوحشى فى سبيل حماية أسرار التنظيم السياسى الذى يتبعونه، وستر ظهر رفاقهم وإخوانهم الذين يشاركونهم الكفاح. وقد اعترف السجانون والجلادون أنفسهم بقدرة هؤلاء المحبوسين والمعتقلين والسجناء على تحمل أشد صنوف التعذيب، وتضحية البعض منهم بأنفسهم فى سبيل حماية الآخرين، فى ظل حرصهم على استمرار راية النضال مرفوعة، وفى ظل كراهيتهم العميقة للمستبدين وجنودهم، وهى الكراهية التى تمد المعذبين بقدرة فائقة على تحمل الآلام بصمت.
نقلا عن المصري اليوم القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع