توالت كتب الدكتور خالد عزب فى علم الآثار، ولاسيما الآثار الإسلامية، وفى الجوانب الاجتماعية والسياسية للعمارة، وعلى مستوى أبعد وأعمق فى «علم العمران»، الذى يعود فى الثقافة العربية- الإسلامية إلى ابن خلدون. كانت أغلب إسهامات عزب تدور فى هذا الجانب، بحكم تخصصه الأكاديمى، لكنه فى السنوات الأخيرة وسع اهتمامه البحثى، وكذلك كتاباته الصحفية، لتمتد إلى المجال العام بمختلف شؤونه وشجونه. كان من قبل يمس الهَمّ العام من بعيد، فصار الآن يقع فى قلبه، متسائلًا، ومشاكسًا، ومساهمًا فى تداول الرأى بشأنه، ليس بوصفه أكاديميًّا بل أيضًا مواطن مصرى منتمٍ، يدرك أن عليه واجب الإسهام فى الإجابة عن بعض الأسئلة التى تشغل الناس.
ضمن هذا الاهتمام يأتى الكتاب الجديد لعزب، «البحث عن مصر»، الصادر مؤخرًا عن «مجموعة بيت الحكمة للصناعات الثقافية» فى القاهرة، والذى تحتشد فيه ألوان من المعرفة، ولا يخلو أى لون فيها من إسهام لافت، وأفكار تستحق النظر والاعتبار.
ينطلق الكاتب من أن «البحث عن مصر» فريضة واجبة، يتطلب أداؤها أن يسأل كل منّا نفسه: أين أنا؟، ومن أين أتيت؟، وإلى أين أنا ذاهب؟. ليس بالمعنى الوجودى، الخاص بخلق الإنسان عمومًا ومسار حياته ومآله فى النهاية، إنما بالمعنى الدنيوى أو الحياتى الذى يمس العيش، ويحاول أن يصل إلى إطار تفسيرى له، يعرف فيه كل منّا: مَن هو؟، وماذا يريد؟، وما دوره؟، وأى مستقبل ينتظره؟.
ويتساءل الكاتب نفسه: هل نحن بحاجة فى القرن الحادى والعشرين أن نبحث عن مصر، وننظر بشكل أعمق فى معنى الوطن والوطنية؟، وأن نقف على التغير الذى حدث فى بلادنا، ونعرف كيف أعاد المصريون اكتشاف مصر؟.
يبدأ الكتاب بعبارة لافتة تقول: «التحولات الحقيقية فى مصر حدثت نتيجة رغبة المصريين فى إعادة بناء مصر بصورة مختلفة، وحينما كان رأس السلطة يذهب بعيدًا سرعان ما تعود مصر إلى مصر مرة أخرى».
يحوى الكتاب عدة مقالات ودراسات مكتوبة بأسلوب سلس، وتطرح آراء وأفكارًا مهمة حول هوية مصر، وكيف يفتقر تدريس التاريخ فى مدارسنا إلى التعبير الكافى عن هذه الهوية، وتاريخ استقلال مصر وقيام دولتها المعاصرة عام 1922، وهو تاريخ لا تعرفه أغلبية المصريين، وهنا يقول الكاتب: «الأجيال الصاعدة فى مصر لا تعرف يوم الاستقلال المصرى 15 مارس 1922، فى حين يقرأون عن يوم الاستقلال الأمريكى، ويعرفه طلاب المدارس الأجنبية فى مصر».
وينبه الكتاب إلى الأخطار الشديدة التى تحدق بقوى مصر الناعمة، رغم إمكانياتها الكامنة، وكيف أنها تراجعت إقليميًّا ودوليًّا، فى ظل المشكلات العميقة التى تواجه التعليم، لكن فى نظرى ليس هذا فقط، إنما أيضًا لأن هناك من الأسباب السياسية والاجتماعية والاقتصادية التى لا تعطى هذا النوع من القوة دوره الطبيعى والاعتيادى فى صناعة النهضة والتقدم، الذى يتكئ على أن المورد البشرى هو الأهم فى تحقيق هذا.
ويتطرق الكتاب إلى موضع الدين فى الحياة الاجتماعية المصرية، ويعرج على موضع الأزهر منها، والتساؤلات التى يثيرها، ومنها: من أين أتت قوة الأزهر ومكانته؟، وهل الأزهر جاد فى تجديد الخطاب الدينى؟، وما مستقبله فى ظل التطورات التى تلحق بالحالة الدينية المصرية؟، وهنا يتحدث عن الجهد المتواصل للأزهر فى سبيل أن يبقى قادرًا على العطاء، ويطالب بضرورة تعزيز دور الأزهر على مستوى العالم الإسلامى.
على الجانب الآخر، يرى الكاتب أن اهتمام الكنيسة بالدراسات القبطية لا يزال محصورًا داخلها، وكان من المهم أن يصل إلى التداول العام عبر الصحافة والإعلام نظرًا لأن هناك الجديد الذى تجود به البرديات القبطية كل يوم عن حياة المصريين، خاصة خلال الحكم البيزنطى، ومن المهم أن تعرض وتعرف كجزء مهم من ثقافة الشعب المصرى وتاريخه.
ويتعرض الكتاب لجانب من طبيعة المصريين المرحة فى ضحك كالبكاء، ولاسيما فى أوقات الشدائد، ويرى أهمية النكتة فى حياتنا، حتى لو كانت لاذعة، لأنها يرى أن النكتة «تعطى مجالًا ومساحات لاستيعاب الناس، وتكشف عن المشكلات»، وأنها ليست فى كل الأحوال تعبيرًا عن التنفيس والهروب، لكنها تحمل جانبًا من موقف الرأى العام.
يتناول الكتاب أيضًا آفة مستمرة فى الحياة المصرية، تتمثل فى ضياع الكثير من الوثائق الرسمية، ثم الأرشيف المفقود للصحافة المصرية، ومتحفها المنسى، وحال التعليم الآن، وأسباب تردى التفكير المبدع لدى أغلب المتعلمين، وعلاقة المثقفين بالسلطة السياسية، والرواية التاريخية لعلم الآثار فى مصر.
وفى تناوله المشكلات التى يتعرض لها التخطيط العمرانى حاليًا، يُبدى الكاتب رأيًا مهمًّا يقول فيه: «سيجرى كبح جماح تضخم المدن لصالح المدن الصغيرة، قليلة التكلفة فى المرافق والسكن والمواصلات، حيث إن العمل من المنزل لا يتطلب الوجود فى نفس المكان، ولذا سيقل الإقبال على السكن فى المدن الكبيرة، لصالح الأماكن الأكثر هدوءًا، ما يتسبب فى كساد عقارى فى مدينة مثل القاهرة مستقبلًا».
ويُعرج الكتاب كذلك على تناول التجليات التى يظهر بها الخط العربى عند المصريين، وكيف تطور، وصار واحدًا من الفنون المهمة، التى تُستخدم لأغراض عدة، وقام على أكتاف خطاطين بارعين. ويطرح هذا فى إطار حديث عام عن الثقافة المصرية، التى يطالب بالاهتمام بها حتى تستعيد مكانتها، ويكون هذا عبر وجود مشروع ثقافى، ثم إنشاء مؤسسات فاعلة للقيام به، وتوفير الموارد البشرية والمادية الكافية لنجاحها.
ينتهى الكتاب بالإجابة عن سؤال مهم هو: هل المستقبل له رؤى ودراسات وأبحاث فى مصر؟، ويجيب الكاتب بأننا فى حاجة إلى مزيد من الدراسات فى هذه الناحية حتى نخطط للدولة على أسس علمية سليمة، تساعدنا فى الخروج من هذا الضيق.