بقلم - عمار علي حسن
ما إن تبحث عن أى أديب مصرى كبير، أو أى قضية تناولها الأدب، حتى يخرج لك مصطفى بيومى من بين سطور الكتب، كواحد من أهم مؤرخى ومصنفى الأدب بمصر فى نصف القرن الأخير، بل هو متفرد فى نظرته الشاملة، وهو يتلمس تاريخ النقد، ويتتبع تاريخ الأدب، ويفحص أيام الأدباء وسيرهم
ويزيدك فى هذا أن الرجل لم يقتصر على نقد وتسجيل وحصر وتفكيك وبعثرة وترتيب وتنظيم وهندسة كثير من إنتاج أعلام الأدب وقضاياهم، إنما نفذ من هذا كله إلى نقد نصوصهم، وهو فى هذا متميز، من زاوية ربط النص بسياقه، وأخذه إلى آفاق أرحب فى التفسير والتأويل.
مصطفى بيومى، ابن بلدى المنيا، الذى عصرته الدنيا وهصرته، لم يبخل بجهد، ولا وقت، على الأدب، وغيره من المعارف، فهو متعدد الاهتمام والاطلاع والكتابة، له فى كل اتجاه سهم، وفى كل جمع قول، أخلص للأدب، قراءة وكتابة، حتى أضناه، وسلى جسده، وأورثه أسقامًا، تقعد غيره، فلا يقدر على حملها، أما هو فيقوى على ضعف الجسد بقوة الروح، ومضاء الإرادة، وحضور الرغبة التى لا تتوقف فى إضافة شىء جديد إلى الثقافة، بعيدًا عن أى هرج أو مرج، وكيف يهرج الزاهدون العاكفون فى صوامع المعارف والفنون!.
عرفت مصطفى بيومى منذ زمن بعيد، وتابعت كل ما يكتب، وأكبرت له جهاده فى سبيل الانتصار للجمال والمعرفة، ولكنى، ولأسباب تخصنى، أجد نفسى ضعيفًا حيال كتاباته عن المنيا، فأنا ابنها، وهو قادر طوال الوقت على أنه يذكرنى بها، كابن مخلص لهذه المدينة التى كانت وديعة رائعة جميلة، وجار عليها الزمن، فصارت إلى حال أخرى، يجرحه القبح والفوضى.
يستحضر بيومى المنيا التى كانت، ويغمض عينيه كأنه يريد أن يقبض على الصور التى راحت، ثم يزفر متألمًا على ما جرى لهذه المدينة، فبناياتها الجميلة الخفيضة هدمت وقامت مكانها عمارات قبيحة، والسينمات الثلاث التى أدهشته وجعلته يتعلق بنجوم الفن، فيكتب عن المنسيين منهم، هدمت منها اثنتان، وكورنيش النيل الذى كان حرًّا طليقًا، يلثمه الشارع الأول فى المدينة برفق من الغرب، والمياه السارية الجارية فى هدوء من الشرق، انتبهت إليه الرأسمالية الطفيلية والبيروقراطية الشائخة، فاقتطعت منه ما شاءت، وحالت دون وصول الناس إلى أغلبه. أما البشر، الذين أفرد لهم روايته البديعة «ناس من المنيا» فرحلوا عن دنيانا تباعًا، تاركين فى رأسه ذكريات مفعمة بالحنين والشجن.
جمع مصطفى بين خلفيات شتى أعانته على الوعى والفهم والتأمل، فأبوه من أصول ريفية، فجعل همزة الوصل بينه وبين القرية قائمة، والأب موظف سكن المدينة، فنشأ فيها ليكون من أبنائها المستورين، الذين يلتقطون كل ما تجود به من معرفة وجمال وطرائق عيش. والابن هو الفتى الذى جاء إلى العاصمة مبكرًا ليلتحق بكلية الإعلام جامعة القاهرة، فعرف ثقافة مدينة أخرى، كبيرة متجهمة موحشة ومتوحشة، لا تعطى عوارفها إلا لمن يملك مفاتيحها، لكن المنهل الأكبر الذى غرف منه بلا قناعة ولا اكتفاء، هو الكتب، التى يقرؤها بنهم، ويستعذبها بشره، ويستقطر معانيها على مهل، غير مكتف فى هذا بالأدب، الذى يحبه حبًّا جمًّا، إنما بمختلف ألوان المعرفة، وهى مسألة لا تخطئها أذن من يستمع إليه، سواء أيام كان صوته جهورًا طليقًا فى شبابه، أو حين صار واهنًا متقطعًا، حين بات على أبواب الخامسة والستين مع عمره، يكتب للناس وصايا الرحيل كل ليلة على صفحته بفيسبوك، لكننا كلما قرأناها، دعونا له بطول العمر، ليتم ما بدأه، وهو كثير، لا أرى له نهاية، إلا حين تأتى الإغماضة الأخيرة، التى لا بد لها من مجىء، كحال كل حى يدب على هذه الأرض، أو نبتة ترقص فى النسائم الرخية.
لم يسع مصطفى إلى أن يخطف من القاهرة كل مفاتيحها، وما أكثرها وأقساها! إنما اختار مفتاحًا واحدًا، لا يفكر فيه سوى أولياء المعرفة، وأصفياء الفن، والساعين إلى أمل بعيد، ومجتمع آخر يسوده الجمال والعدل والحرية، كيف لا وهو أكبر المتخصصين فى العالم العربى فى دراسة نص نجيب محفوظ، ذلك الرجل العظيم الذى كان بطله الأثير يحلم دائمًا بأن يشرق النور، وتأتى العجائب، ويرعى العجل مع الشبل، والذئب مع الغنم، حين يعود الفتوة الغائب «عاشور الناجى»؟!.
بعد سنوات طويلة، لن يستطيع الساعون إلى نصوص أدباء كبار، نجيب محفوظ، وبهاء طاهر، وعلاء الديب، وصنع الله إبراهيم، وفتحى غانم، أن يتجاوزوا ما كتب مصطفى بيومى، فهو وضع معاجم للشخصيات التى حفلت بها روايات وقصص هؤلاء، وكتب عن كثيرين غيرهم، مقالات ودراسات وكتبًا، وشارك فى نقاشات ومشافهات عن مختلف الأجيال بما فيها أبناء أيامنا الذين رأت أعمالهم الأولى النور. الأمر نفسه بالنسبة لشخصيات سينمائية بديعة، من الموهوبين الذين لم يكونوا فى أى يوم من نجوم الشباك، فقد كتب مصطفى عنهم بمحبة وإخلاص، وحتى كتبه عن رواد الاستثمار من الكبار الراحلين ستبقى مفيدة. ومع النقد والتأريخ الأدبى والاجتماعى أبدع مصطفى عشرة كتب روائية وقصصية.
سيعود باحثون ونقاد وكتاب وطلبة علم إلى ما تركه مصطفى بيومى، وسيكشفون كم كان هذا الرجل دؤوبًا متفانيًا متعبدًا فى محراب الأدب، وحين يقرأون سيرته، سيدركون كم كان بسيطًا زاهدًا، ليله أرق، وأكله ورق، لم تعطه الكتابة سوى ما يقتات به، ويطعم أهله، مما يملأ بطون المعذبين فى الأرض.