بقلم - عمار علي حسن
(1)
ما بين 22 أكتوبر 2010 حتى 25 ديسمبر 2011، مساحة زمنية كَمْ مرَّ مثلها فى حياتنا مرورًا عابرًا، حيث تشابهت الأيام، وطَمسَ بعضُها بعضا، فهاجرت من الذاكرة وحلت فى ظلمة التجاهل والغياب. إنها أربعة عشر شهرًا وثلاثة أيام، لا تشكل فى عمر بلادنا المديد غمضة عين وانتباهتها، لكنها مثّلت فى حياة جيلنا تجربة حافلة زاخرة بالمعانى والقيم والعبر، جعلتنا نعتقد ونحن نرقص فى أحضان حلم مجنح أن الظلام قد حمل عصاه ورحل، والفقر سيكون حكايات نرويها لأحفادنا وهم يرفلون فى عيش رغيد، لنكتشف بعد كل هذا أن علينا أن نحمل صخرتنا ونصعد الجبل من جديد. وعند الروائى سعد القرش كانت هذه المدة القصيرة الكبيرة فرصة ذهبية ليبرهن لنا على أن «الفيس بوك» قد صار ديوان الحياة المعاصرة بامتياز، بل صار جزءا من حياتنا ذاتها.
فبعد خمس روايات ومجموعتين قصصيتين وكتاب فى أدب الرحلات وآخر فى تاريخ ثورة يناير يتحفنا «سعد»، المتسق دومًا مع ما يقول وما يكتب وما يفعل، بكتاب وسمه بـ«أيام الفيس بوك.. مسائل واقعية فى عالم افتراضى» صدر عن «الهيئة المصرية العامة للكتاب»، يسرد علينا فيه كل ما نقرته أنامله على موقع التواصل الاجتماعى هذا، فى أيامٍ هزتها ريح صرصر عاتية، فأيقظتنا بعد سبات، لنهتف ونصرخ ونقول ونفعل ونفتح صدورنا للموت غير هيابين، ونفتح عقولنا كى ترتب حروفا وأصواتا نفهم منها بعض ما جرى وما سيجرى.
فى مقدمته البديعة التى كتبها بأسلوب شاعرى فياض، يقول «القرش» ممهدًا لنا الدخول إلى تعاريج كتابه واستقاماته: «فى الكتابة، نختفى وراء أقنعة أكثر صدقًا من الحياة، أقنعة الفن، ولكن الفيس بوك سجل لا يكذب، هو ملامحك وبصمة روحك، كتابك الذى ينطق عليك بالحق، ويؤرخ مواقفك بصرامة يستحيل معها التزوير. أنت فى الفيس بوك حاصل جميع آرائك وتعليقاتك وأصدقائك وأعدائك وتفاعلاتك، أنت صفحتك».
إنه الهدف الذى أراد المؤلف أن يحدده منذ اللحظة الأولى، وهو أن يضرب مثلًا فى تسجيل المواقف والآراء التى تدفقت بلا هوادة، محاولة أن تلحق الأحداث والوقائع الجارية وربما تسبقها أحيانا، تبشيرا ونبوءة، لكنه لم يكن أنانيا أبدا، فيكتفى بما كتبه هو، مقدما شهادة على انخراطه فى الثورة عبر العالمين الواقعى والافتراضى، بل فتح الباب لآخرين، شاطروه الأفراح والأتراح، من أصدقائه الذين كانوا مثله أو بعضه، مدفوعين بطاقة جبارة إلى أن يسكبوا أرواحهم على الخيوط غير المرئية للشبكة العنكبوتية، ليتشاركوا فى نسج ثياب جديد لمصر.
أى نوع من الكتابة تلك؟.. لا يتركنا المؤلف نعانى فى البحث عن إجابة، بل يقول من دون مواربة: «فى صفحاتنا على الفيس بوك نمارس تلقائية من تحلو له الدندنة فى الحمام أو الغناء غير المنضبط بين الأصدقاء، غناء غير صارم، لم تسبقه بروفات، وتتداخل فيه المقامات، ويتفاعل معه حاضرون من كل مكان.. فى صفحاتنا تلك نكون صبية يلعبون الكرة فى أزقة وحارات أو ممرات بين البنايات، وهو لعب يسبق ضبط المهارات، ولا يُعنى بإحراز أهداف أو جذب انتباه. هى كتابة حميمة وعارية، ولكنها أكثر صدقًا، هى باختصار ما قبل الكتابة هى كتابة وحياة». ولم ينسَ «القرش» أن يمارس دوره الدائم فى فضح بعض من تراخوا وتراجعوا وخانوا وخاروا وباعوا، ولم يترك الفرصة كى يبوح لنا بأوجاعه مما يجرى، وخوفه مما هو آت، لكنه يفتح النهايات بطريقة درامية تليق به كأديب راسخ، حين يقتطف من مشاركة صديقه عيد صالح عبارة دالة يقول فيها تعليقًا على العلاقة بين العسكر والإخوان: «يا صديقى الحميم، الأفق مفتوح على كل الاحتمالات المخيفة والمؤدية إلى الجحيم»، فيرد عليه هو فى ثقة بالغة: «ولكنى متفائل».
(2)
قبل ست سنوات، كتبت محذرًا من صناعة مناخ طارد للاستثمار، وقلت: حرية الصحافة، واستقلال القضاء، ووجود العمل النقابى، ومكافحة الفساد، والليونة البيروقراطية المنضبطة، وإقرار حوافز جاذبة للعمل.. ليست ترفًا إنما ضرورة، ومن دونها سيهرب مال الداخل ولن يأتى مال الخارج إلا لشراء أصول الدولة.
(3)
ليس صحيحًا أن العارفين يكتفون بالنقد والنقض، فعلماء مصر ومثقفوها قدموا آلاف الاقتراحات، ويشهد على هذا «بنك الأفكار» الذى أقيم بعد الثورة.
وفى الأبحاث والرسائل الجامعية وتقارير ودراسات مراكز الأبحاث والمجالس القومية المتخصصة وما انتهت إليه مؤتمرات وندوات حلولٌ كثيرة، لكن يوجد فى مصر فصام غالبًا بين القرار والعلم.
(4)
ظل معهد جوته بميدان المساحة مهملًا ومظلمًا أغلب الأوقات.. لكنه توسع وضم مبانى جديدة وتحول لشعلة نشاط يغمرها ضوء ليل نهار، لأن آلاف الشباب من المهندسين والمبرمجين وعلماء صغار السن فى التخصصات كافة يقبلون لتعلم الألمانية ابتغاء الهجرة. أمام السفارات طوابير لا تنتهى. مصر تنزف فى صمت، ولابد من وقف نزيفها، وهذا ليس بمستحيل.