أظافره التى أكلها زمن الانتظار لا تمنعه من أن يخمش بها صخرة جرداء ملساء ليحفر لقدميه موضعًا، وهما تصعدان إلى قمة شاهقة، تنيخ عليها النجوم الزاهرات، والكلم الطيب، ولحن يترامى من جوف السماء البعيدة، يعقبه نداء عميق يتهادى فقط لعجوز كادح، لم يتوقف يومًا عن المحاولة.
لا ينتصر الحق ولا الحقيقة فى كل وقت، وقد يُهزمان مؤقتًا، فأغلب أيام الناس مع ما هو فى بطلان مقيم، لكن ما يمنع الباطل والزيف من التوحش هو وجود الذين يقولون فى كل لحظة:
ـ الحق منتصر.
ليسوا واهمين إذن، لكنهم فى حلم هائم يعيشون، دون انفصال عما تلمسه أيديهم وأقدامهم وتراه عيونهم، إنهم الذين يقطفون السحاب العابر، وبين أيديهم يهطل بعض مائه، فيسقى الحرث والنسل. هم الذين لولا وجودهم فى حياة الناس لصار كل شىء قبيحًا تؤذينا رؤيته، عفنًا تضرنا رائحته، خشنًا يجرحنا ملمسه، ضائعًا تتخبط فيه عقولنا التى أتعبها التفكير والتدبير.
من أين جاء هؤلاء المؤمنون بالحق والصواب بهذا اليقين، الذى يخالف ما سار عليه تاريخ الناس؟. إنها الأمنيات، التى لم تغرب يومًا عن نفوس الآدميين، وإلا انسحق تحت أقدام الأيام التى تندفع بلا هوادة، وماتت كل الأحلام، وانتصرت الكوابيس المفزعة المفجعة.
هذا التمنى يُحلِّق فوق رؤوس الكل، فلا يوجد على ظهر الأرض إنسان بلا أمنية، حتى لو كانت وهمًا أو أمرًا واهيًا أو شيئًا صغيرًا لا يُرى، وقد يذوب فى الهواء إلى الفناء. ليست كل أمنية قابلة للتحقق، ومع هذا فإن وجودها هو فى حد ذاته تحقق وتحقيق لأن غيابها يعنى مزيدًا من البؤس والانحدار والانزلاق والتردى والضياع والتيه.
لا يوجد أقسى فى هذه الحياة من سؤال الذين يؤمنون بأنهم على حق وصواب، عن جدوى ما يفعلون، بعد أن يكونوا قد عرقوا حتى تعب منهم الجهد، وعرفوا حتى كلَّ منهم الذهن، وأيقنوا حتى وهن منهم الفؤاد، فمثل هذا السؤال الذى تعجز أمامه كل الإجابات لا يمكن لأحد أو شىء فى هذا العالم الغارق فى الرذيلة، من أول الخليقة إلى منتهاها، أن يتجاوزه، حتى غلاظ القلوب، الذين يعرفون الصواب وينكرونه، ويدركون الحق ويعطونه ظهورهم، خوفًا أو طمعًا.
إن الحياة تقسو عليهم حتى يفر السؤال من بين أصابعهم، وتتوه الإجابات فى غيوم تدفعها الريح إلى حيث تنتهى فوق بلاد لا يعرفها الهواء الجامح ولا هم أيضًا يعرفونه، لكنهم لا يكفون عن المحاولة، يمدون أصابعهم نحو الأسئلة الطائرة، فلا يمسونها، وهم الذين توهموا أن بوسعهم أن يُقبضوا عليها كما يقع اليمام فى أفخاخ الصيادين، ويعصروها كما القصب بين تروس تحوله إلى سائل يلذ للشاربين.
يا سيدى الذى قلت إن الصواب غالب لا محالة، عليك أن تتمهل قليلًا، فغلبته قد تتأخر، وتأخذ فى طريقها كثيرًا من الرؤوس والآراء والثرثرات التى تطير فى الفراغ، إنها تلك التى يُطلقها متعجلون، ليسوا أغبياء هم، إنما فرسان عظام، أرادوا أن يقطفوا ثمارًا لم تُولد بعد، ليس عن غفلة، إنما لأنهم سعوا إلى المسارعة فى تبديد القبح الذى يلطخ وجه العالم، وكانت لديهم كل رغبة فى أن يدفعوا ثمن ما أرادوا الإقبال عليه.
سمعوا آراء كثيرين ممن يرون تحت أقدامهم عن السيوف التى تجز الأعناق، والجدران التى تقبض على الأجساد المنهكة، والأيدى الغليظة التى تخطف المال والصيت، والمشانق المنصوبة لكل مَن يقول: لا، والصحراء المفتوحة أمامهم، فيتوهون فيها، أو المنافى القلقة خلف البحار التى تتوجس من وجودهم، وقالوا:
ـ أخطأوا التقدير.
بعض هؤلاء اعتقدوا أن كل شىء قابل للمساومة، حتى الكرامة والحرية، وهناك مَن وقفوا أمام الأسوار الشاهقة المسنونة بحراب تمزق الأجساد والأحلام، وقالوا:
ـ ستزول.
ثم ذرفوا دموعًا ساخنة أكلتها الريح المسافرة بين رغباتهم المُلِحّة، وواقع مطمور تحت ركام من ثلج مقيم.
سمعوا ضحكات عارية اقتحمت آذانهم من كل مكان، لكنهم هشوها، وحاولوا متكئين على ما ألفته أقدامهم الحافية من قسوة، ورموا سواعدهم المثخنة بجراح لم تتكئ على وسائد كل الزمن الذى ذهبت أيامه، وبقيت أحكامه، وقالوا:
ـ لا يعرف إلا مَن يكابد.
كان أغلب الناس قد مروا من هنا، عاشوا هانئين بجهلهم أو تغافلهم أو تنازلهم عن كل ما يجعل الإنسان إنسانًا حقًّا، تطلعوا إلى ستائر سوداء تدَلّت على أعمارهم العابرة، وقال لهم مَن تفهموا حالهم، وعركوا ما يجرى:
ـ من أصلابكم سيأتى المنتصرون.
لم يكذبوا عليهم لأنهم عرفوا جيدًا أن ما قالوه لم يختلف عما آمنوا به طوال عمرهم المديد، لكنهم كانوا يدركون بما عرفوه عن السنين التى راحت وتلك التى ألفوها أن الذى يجرى يجرف أمامه كل الأمنيات، وأن القسوة بوسعها أن تبتلع بين أنيابها الحادة كل ما يمد إليها من رغبات أولئك الذين لا يزالون يقفون تحت الرايات العالية، التى ترفرف فى وجه الأكاذيب والمنافع وقسوة الأيدى الخشنة التى تمتد لتُنزل الرايات المجنحة، وتغلق الأفواه الناطقة.
كل هؤلاء لم يتوقفوا طويلًا عند حدود الصائب والخاطئ، فالذين سبقوهم على الطريق ثرثروا طويلًا عن الحق والباطل، ورسموا ما اعتقدوا أنها معالم الطريق ليجنوا فى النهاية الحسرات، ويتركوا أتباعهم يقفون على رأس الجسور العارية عرايا مثلها، ويسألوا بأفواه مقددة من فرط الجوع والخوف والأسى واللهفة والحيرة:
ـ هل يمكن للسماء أن تسمع أنيننا؟.
تقتحم أذنيه ضحكات من جنبات أحد الأماكن، ويأتيه صوت جهورى يقول:
ـ لا يدرك ما فى أفئدة الناس إلا مَن عرف البيوت الخفيضة، والأبواب المفتوحة بلا حساب.
يضحك لأن الصوت يأتى من هذا المكان، وليس من حارة منسية، أو شارع مترب ضيق، يخنق الناس، لكنه يدرك أن الإنصات أفضل كثيرًا من التجاهل، فيقول:
ـ هل الجوع أسمعنا صوت بطونهم؟.
وتأتى الإجابة:
ـ لا.