توقيت القاهرة المحلي 10:09:45 آخر تحديث
  مصر اليوم -

المثابرة على درب الحق والحقيقة

  مصر اليوم -

المثابرة على درب الحق والحقيقة

بقلم - عمار علي حسن

أظافره التى أكلها زمن الانتظار لا تمنعه من أن يخمش بها صخرة جرداء ملساء ليحفر لقدميه موضعًا، وهما تصعدان إلى قمة شاهقة، تنيخ عليها النجوم الزاهرات، والكلم الطيب، ولحن يترامى من جوف السماء البعيدة، يعقبه نداء عميق يتهادى فقط لعجوز كادح، لم يتوقف يومًا عن المحاولة.

لا ينتصر الحق ولا الحقيقة فى كل وقت، وقد يُهزمان مؤقتًا، فأغلب أيام الناس مع ما هو فى بطلان مقيم، لكن ما يمنع الباطل والزيف من التوحش هو وجود الذين يقولون فى كل لحظة:

ـ الحق منتصر.

ليسوا واهمين إذن، لكنهم فى حلم هائم يعيشون، دون انفصال عما تلمسه أيديهم وأقدامهم وتراه عيونهم، إنهم الذين يقطفون السحاب العابر، وبين أيديهم يهطل بعض مائه، فيسقى الحرث والنسل. هم الذين لولا وجودهم فى حياة الناس لصار كل شىء قبيحًا تؤذينا رؤيته، عفنًا تضرنا رائحته، خشنًا يجرحنا ملمسه، ضائعًا تتخبط فيه عقولنا التى أتعبها التفكير والتدبير.

من أين جاء هؤلاء المؤمنون بالحق والصواب بهذا اليقين، الذى يخالف ما سار عليه تاريخ الناس؟. إنها الأمنيات، التى لم تغرب يومًا عن نفوس الآدميين، وإلا انسحق تحت أقدام الأيام التى تندفع بلا هوادة، وماتت كل الأحلام، وانتصرت الكوابيس المفزعة المفجعة.

هذا التمنى يُحلِّق فوق رؤوس الكل، فلا يوجد على ظهر الأرض إنسان بلا أمنية، حتى لو كانت وهمًا أو أمرًا واهيًا أو شيئًا صغيرًا لا يُرى، وقد يذوب فى الهواء إلى الفناء. ليست كل أمنية قابلة للتحقق، ومع هذا فإن وجودها هو فى حد ذاته تحقق وتحقيق لأن غيابها يعنى مزيدًا من البؤس والانحدار والانزلاق والتردى والضياع والتيه.

لا يوجد أقسى فى هذه الحياة من سؤال الذين يؤمنون بأنهم على حق وصواب، عن جدوى ما يفعلون، بعد أن يكونوا قد عرقوا حتى تعب منهم الجهد، وعرفوا حتى كلَّ منهم الذهن، وأيقنوا حتى وهن منهم الفؤاد، فمثل هذا السؤال الذى تعجز أمامه كل الإجابات لا يمكن لأحد أو شىء فى هذا العالم الغارق فى الرذيلة، من أول الخليقة إلى منتهاها، أن يتجاوزه، حتى غلاظ القلوب، الذين يعرفون الصواب وينكرونه، ويدركون الحق ويعطونه ظهورهم، خوفًا أو طمعًا.

إن الحياة تقسو عليهم حتى يفر السؤال من بين أصابعهم، وتتوه الإجابات فى غيوم تدفعها الريح إلى حيث تنتهى فوق بلاد لا يعرفها الهواء الجامح ولا هم أيضًا يعرفونه، لكنهم لا يكفون عن المحاولة، يمدون أصابعهم نحو الأسئلة الطائرة، فلا يمسونها، وهم الذين توهموا أن بوسعهم أن يُقبضوا عليها كما يقع اليمام فى أفخاخ الصيادين، ويعصروها كما القصب بين تروس تحوله إلى سائل يلذ للشاربين.

يا سيدى الذى قلت إن الصواب غالب لا محالة، عليك أن تتمهل قليلًا، فغلبته قد تتأخر، وتأخذ فى طريقها كثيرًا من الرؤوس والآراء والثرثرات التى تطير فى الفراغ، إنها تلك التى يُطلقها متعجلون، ليسوا أغبياء هم، إنما فرسان عظام، أرادوا أن يقطفوا ثمارًا لم تُولد بعد، ليس عن غفلة، إنما لأنهم سعوا إلى المسارعة فى تبديد القبح الذى يلطخ وجه العالم، وكانت لديهم كل رغبة فى أن يدفعوا ثمن ما أرادوا الإقبال عليه.

سمعوا آراء كثيرين ممن يرون تحت أقدامهم عن السيوف التى تجز الأعناق، والجدران التى تقبض على الأجساد المنهكة، والأيدى الغليظة التى تخطف المال والصيت، والمشانق المنصوبة لكل مَن يقول: لا، والصحراء المفتوحة أمامهم، فيتوهون فيها، أو المنافى القلقة خلف البحار التى تتوجس من وجودهم، وقالوا:

ـ أخطأوا التقدير.

بعض هؤلاء اعتقدوا أن كل شىء قابل للمساومة، حتى الكرامة والحرية، وهناك مَن وقفوا أمام الأسوار الشاهقة المسنونة بحراب تمزق الأجساد والأحلام، وقالوا:

ـ ستزول.

ثم ذرفوا دموعًا ساخنة أكلتها الريح المسافرة بين رغباتهم المُلِحّة، وواقع مطمور تحت ركام من ثلج مقيم.

سمعوا ضحكات عارية اقتحمت آذانهم من كل مكان، لكنهم هشوها، وحاولوا متكئين على ما ألفته أقدامهم الحافية من قسوة، ورموا سواعدهم المثخنة بجراح لم تتكئ على وسائد كل الزمن الذى ذهبت أيامه، وبقيت أحكامه، وقالوا:

ـ لا يعرف إلا مَن يكابد.

كان أغلب الناس قد مروا من هنا، عاشوا هانئين بجهلهم أو تغافلهم أو تنازلهم عن كل ما يجعل الإنسان إنسانًا حقًّا، تطلعوا إلى ستائر سوداء تدَلّت على أعمارهم العابرة، وقال لهم مَن تفهموا حالهم، وعركوا ما يجرى:

ـ من أصلابكم سيأتى المنتصرون.

لم يكذبوا عليهم لأنهم عرفوا جيدًا أن ما قالوه لم يختلف عما آمنوا به طوال عمرهم المديد، لكنهم كانوا يدركون بما عرفوه عن السنين التى راحت وتلك التى ألفوها أن الذى يجرى يجرف أمامه كل الأمنيات، وأن القسوة بوسعها أن تبتلع بين أنيابها الحادة كل ما يمد إليها من رغبات أولئك الذين لا يزالون يقفون تحت الرايات العالية، التى ترفرف فى وجه الأكاذيب والمنافع وقسوة الأيدى الخشنة التى تمتد لتُنزل الرايات المجنحة، وتغلق الأفواه الناطقة.

كل هؤلاء لم يتوقفوا طويلًا عند حدود الصائب والخاطئ، فالذين سبقوهم على الطريق ثرثروا طويلًا عن الحق والباطل، ورسموا ما اعتقدوا أنها معالم الطريق ليجنوا فى النهاية الحسرات، ويتركوا أتباعهم يقفون على رأس الجسور العارية عرايا مثلها، ويسألوا بأفواه مقددة من فرط الجوع والخوف والأسى واللهفة والحيرة:

ـ هل يمكن للسماء أن تسمع أنيننا؟.

تقتحم أذنيه ضحكات من جنبات أحد الأماكن، ويأتيه صوت جهورى يقول:

ـ لا يدرك ما فى أفئدة الناس إلا مَن عرف البيوت الخفيضة، والأبواب المفتوحة بلا حساب.

يضحك لأن الصوت يأتى من هذا المكان، وليس من حارة منسية، أو شارع مترب ضيق، يخنق الناس، لكنه يدرك أن الإنصات أفضل كثيرًا من التجاهل، فيقول:

ـ هل الجوع أسمعنا صوت بطونهم؟.

وتأتى الإجابة:

ـ لا.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

المثابرة على درب الحق والحقيقة المثابرة على درب الحق والحقيقة



GMT 10:17 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

ممدوح عباس!

GMT 10:15 2024 الإثنين ,18 تشرين الثاني / نوفمبر

القديم والجديد؟!

GMT 08:33 2024 السبت ,02 تشرين الثاني / نوفمبر

فرنسا تتصالح مع نفسها في المغرب

GMT 03:37 2024 الأحد ,13 تشرين الأول / أكتوبر

حزب المحافظين البريطاني: «لليمين دُرْ»!

GMT 23:09 2024 الأحد ,06 تشرين الأول / أكتوبر

هل يمكن خلق الدولة في لبنان؟

GMT 12:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024
  مصر اليوم - أفضل 10 وجهات سياحية شبابية الأكثر زيارة في 2024

GMT 12:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف
  مصر اليوم - نصائح لاختيار قطع الأثاث للغرف متعددة الوظائف

GMT 17:17 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
  مصر اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 22:45 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية
  مصر اليوم - زينة تستعد للمشاركة في الدراما التركية

GMT 07:12 2024 الجمعة ,13 كانون الأول / ديسمبر

فينيسيوس الأفضل في العالم لأول مرة وهذا ترتيب ميسي وصلاح

GMT 15:43 2021 الخميس ,22 تموز / يوليو

بريشة : سعيد الفرماوي

GMT 22:56 2019 الإثنين ,09 كانون الأول / ديسمبر

إيهاب جلال يطمئن على فريد شوقي بعد تحسن حالته

GMT 16:26 2019 الأحد ,10 آذار/ مارس

سيدة كل العصور

GMT 06:37 2018 الثلاثاء ,28 آب / أغسطس

تعرف على سعرالمانجو في سوق العبور الثلاثاء

GMT 01:04 2018 الثلاثاء ,01 أيار / مايو

وداع أندريس إنييستا يخيم على احتفالات برشلونة
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon