توقيت القاهرة المحلي 12:48:29 آخر تحديث
  مصر اليوم -

نقاش مع أدونيس حول طه حسين.. طريقة أخرى للتنوير «3-3»

  مصر اليوم -

نقاش مع أدونيس حول طه حسين طريقة أخرى للتنوير «33»

بقلم - عمار علي حسن

عاد بى أدونيس، وهو الرجل الذكى الأريب يقظ الذهن رغم تخطيه التسعين من عمره، إلى ما قلته عن تيار اجتماعى يحمل الأفكار المحلقة فى الهواء، وقال: لكن الطرق الصوفية هى التى تمثل التيار الذى تتحدث عنه ضرورة أن يكون حاملًا الفكرة، فمن سيحمل صوفية بهذا العمق والنقاء كما تطرح؟ كان سؤالًا غاية فى العمق والدقة، أربكنى فى حقيقة الأمر، لكنى أجبته: ليس من المستحيل إصلاح الطرق الصوفية الموجودة حاليًا، وهناك بالفعل محاولات دائمة لكنها، ومن أسف، تبوء بالفشل، والأهم هو خلق تيار صوفى سائل، لا تنظيم له، عبر بث أفكار النسق الصوفى الخالص فى المجتمع، عبر التعليم والمؤسسات العاملة على إنتاج الخطاب الدينى، والإعلام، وقطعًا هناك دور كبير للمفكرين والأدباء والفنانين وعلماء الإنسانيات وبعض قادة الرأى.

كنت هنا أستند إلى دراستى عن الصوفية والعمل العام الذى جاء فى كتابى «التنشئة السياسية للطرق الصوفية فى مصر»، وتجارب أربع وأربعين شخصية صوفية كبرى تمثل جميع توجهات التصوف جمعتها فى كتابى «فرسان العشق الإلهى»، الذى صار يوزع بشكل جيد فى عقر دار السلفية أو الوهابية، وما حاولته فى كتابى «مقام الشوق» من البحث عن صوفية لا تقف عند حد التفكير فى السماء، إنما تنزل على الأرض لتسهم بقوة فى حض الناس على أن يقوم معاشهم على الأخلاق والروحانية، حيث الرحمة والعدل والاستقامة والحرية والكفاية، أى تكون صوفية بلا مشروع للسلطة السياسية.

هز أدونيس رأسه، وقال: هذا مسار طويل شاق، لكنه جدير بالنظر فيه. قلت له: الحقيقة أنا طرحت ما يدور فى رأسى على عقل كبير، وأعتقد أن هذا العقل، وأشرت إلى رأسه، لو تناول هذه المسألة فسيضيف إليها الكثير. ويمكن هنا أن نستند إلى ما ورد فى كتابك المهم «الصوفية والسوريالية»، فأنت تدرك فيه أن الصوفية هى نظرة إلى اللامتناهى، وأنها تقف عند جزئية الأشياء، ثم يزعم المتصوفة أنهم يطرحون جوابًا عن كلية الأشياء، وأن العقل والمنطق هو من يملك الجواب، لأنهما يتناولان الوجود باعتباره مشكلة لابد من حلها، بينما ترى الصوفية أن الوجود سر، وأن السبيل هو الاتحاد مع هذا السر، لأن فى الوجود ما لا يمكن أن نعرفه عقليًا أو منطقيًا إنما نتواصل معه، ونتوحد به، عبر المحبة. وترى أن العقل يحدد، وتحديد الشىء ينفيه، وحين نحدد الله ننفيه، لأننا نساويه بالأشياء المحدودة.

وواصلت: يمكن البحث عن صيغة عملية لا تجعل التصوف فى مقابل العقل، فلكلٍّ مجاله، وسبق لطه حسين أن ميز بين مجال الدين، ومجال العلم، فى كتابه «من بعيد»، وما نريده من التصوف هنا هو أن يلبى حاجة الناس إلى الدين، فإن طلبوه، وهم لن يكفوا عن طلبه فى المجتمعات الشرقية، وجدوا تصورًا يختلف عن السلفية بشقيها المحافظ والمنفتح، ووقتها سيكون أمامهم تصور روحى وأخلاقى وخيرى، يحرر الإنسان من سلطان المؤسسة الدينية، ومن ادعاء الوسطاء الذين يقفون بين العبد وربه، بزعم أنهم يعرفون الله أكثر، ويحددون الطريق إليه. هنا يكون التصوف الفردى بديلًا لمشروع ما يسمى «الإسلام السياسى» الذى يعمل طوال الوقت على ملء أى فراغ يصنعه الطلب على الدين بين الناس فى مجتمعنا، وله فى هذا خطاب ظاهر، وله طرق وحيل لا تتوقف، وترفع فصائل منه السلاح فى سبيل تحقيق أهدافها.

قال أدونيس: أليس فى طرحك هذا تلفيق آخر؟ أجبته: الطبيعة البشرية تجعل الطلب على العلم والدين قائمين فى نفس الإنسان، فالأول يخلقه العقل، والثانى تخلقه الروح، وعلينا أن نجتهد فى إيجاد صيغة تجعل الاثنين يتواشجان ويتضافران ويعملان معًا فى داخل النفس، ولا يدخلان فى صراع أو تضاد بالضرورة، كما يعتقد البعض، وهذه الصيغة ليست مستحيلة، خاصة أن مسار المسلمين مختلف إلى حد كبير، فالكنيسة عادت العلم فى القرون الوسطى بينما نجد أن بعض علماء الطبيعيات المسلمين كانوا فى الوقت نفسه فقهاء، نعم لم يسلم العلم من محاربة من قبل البعض، وتم اضطهاد علماء، لكن ذلك قليل إن قورن بآخرين.

قال أدونيس: لكننا فى القرون الأخيرة صار لدينا خطاب دينى أغلبه ينفر من العلم بل ويحارب العقل نفسه، وبذا نكون أمام معضلة كبرى. قلت له: هذا صحيح بالطبع، لكن فى كتابك «الصوفية والسوريالية»، يكمن بعض الحل، فأنت تضع إطارًا فلسفيًا لهذه المعضلة، يمكن البناء عليه، لصياغه نسق أو إطار عملى، قابل للتطبيق فى دنيا الناس.

صمت أدونيس برهة، ثم عاد يقول لى: ما رأيك لو أقمنا حوارًا معمقًا حول هذه الفكرة برمتها، ثم نشرنا الحوار فى كتاب. قلت له: لا مانع لدىَّ. قال: فى الحوار ربما نعمق هذه الرؤية ونضيف إليها، أو نرد عليها، فقد نجدها هى الأخرى قاصرة. قلت: ربما، نحن نحاول ونجتهد، وكل تفكير بشرى نسبى، المهم أن نقترب، ولو قليلًا، مما يخرجنا من هذا النفق، إلى براح تنوير حقيقى، وليس مجرد استعارة شائهة أو إعادة طلاء القديم، أو إدارة ظهرنا تمامًا للتراث، ويمكن هنا أن نستعين برؤية طه حسين الذى كان يرى أن القديم جديد مادام نافعًا.

أنهى أدونيس الحوار، وكان قد فرغ من طعامه، قائلًا: سأزور مصر قريبًا ونلتقى لنكمل النقاش، بما يمهد لهذا الكتاب الحوارى، الذى أظنه يفتح أفقًا مغايرًا، يمكن البناء عليه مستقبلًا. قلت له: أنا فى الانتظار، وبراعتك فى الحوار، التى لمستها فى كل ما استمعت إليه منك فى لقاءاتك المتلفزة، سيكون لها الدور الأكبر فى صناعة هذا الكتاب المنتظر.

حين انتقل أدونيس بعد ساعات إلى ساحة المعرض ليلقى محاضرته، جلست أنصت إليه، فوجدته يتحدث باقتدار وجلاء عن واجب البحث عن طريق مختلفة، لا تقف عند حد طه حسين، وتتعامل مع ما أنتجه باعتباره يحمل كل الإجابات على أسئلة زماننا، إنما تتجاوزه إلى صناعة حداثة عربية أكثر قدرة على إقناع الناس فى مجتمعاتنا التى تعانى من خصام مصطنع بين الروح والعقل.

وقتها أدركت أن هذا الشاعر الكبير والمفكر العميق، الذى أثر فى أجيال عربية حاضرة، فى الشعر والفكر، يمكنه أن يعمل عقله المقتدر، ويفكر فى صيغة لحداثة غير مجهضة أو متعثرة.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

نقاش مع أدونيس حول طه حسين طريقة أخرى للتنوير «33» نقاش مع أدونيس حول طه حسين طريقة أخرى للتنوير «33»



GMT 09:09 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

صوت الذهب... وعقود الأدب

GMT 09:05 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

أولويات ترمب الخارجية تتقدّمها القضية الفلسطينية!

GMT 09:04 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 09:03 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

عن تكريم الأستاذ الغُنيم خواطر أخرى

GMT 09:02 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الجائزة الكبرى المأمولة

GMT 09:00 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

تنظيم «الإخوان» ومعادلة «الحرية أو الطوفان»

GMT 08:54 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

لأميركا وجهان... وهذا وجهها المضيء

GMT 08:53 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

أنا «ماشي» أنا!.. كيف تسلل إلى المهرجان العريق؟

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:22 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
  مصر اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 09:31 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
  مصر اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 10:54 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر
  مصر اليوم - الفستق يتمتع بتأثير إيجابي على صحة العين ويحافظ على البصر

GMT 15:05 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

شيرين رضا خارج السباق الرمضاني 2025 للعام الثالث علي التوالي
  مصر اليوم - شيرين رضا خارج السباق الرمضاني 2025 للعام الثالث علي التوالي

GMT 10:18 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

"نيسان" تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان "نيسمو" الـ25
  مصر اليوم - نيسان تحتفي بـ40 عامًا من التميّز في مهرجان نيسمو الـ25

GMT 08:11 2024 الخميس ,31 تشرين الأول / أكتوبر

وجهات سياحية مميزة توفر متعة التزلج في فصل الشتاء

GMT 16:32 2020 الجمعة ,18 كانون الأول / ديسمبر

والدة الفنان المصري عمر كمال تكشف موقفها من عمله

GMT 09:42 2020 الأحد ,06 كانون الأول / ديسمبر

تعرف على قائمة الإجازات الرسمية 2021 في مصر

GMT 02:51 2020 الجمعة ,27 تشرين الثاني / نوفمبر

إصابة لاعب الأهلي المصري محمد أشرف بكورونا

GMT 20:23 2020 الأربعاء ,28 تشرين الأول / أكتوبر

طوارئ في قرية في محافظة قنا بسبب كورونا

GMT 18:31 2020 الإثنين ,28 أيلول / سبتمبر

مورينيو يوضح إصابة سون هي الأولى فقط المزيد قادم

GMT 09:49 2020 الإثنين ,27 تموز / يوليو

جيونبك يعزز موقعه في وصافة الدوري الكوري
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon