توالت كتب تحوى مصطلحات الصوفية ومفاهيمها عبر القرون، وبذل الذين التقطوا مفرداتها وصنَّفوها ورتَّبوها جهدًا فى سبيل رصدها وعرضها، لكنها لم تكن، فى أغلب هذه الأعمال وربما كلها، سوى اقتباس مما تركه المتصوفة الكبار الأوائل، أو نقل أمين عنهم، معتمدة بالأساس على ما جادوا به فى تأملاتهم وانفعالاتهم وجيشان عواطفهم وإلهاماتهم السخية، ووضعوه فى كتب، أو نُسب إليهم من أقوال، أو فيوضات لفظية.
وبدت هذه الأعمال فى مجملها كأنها عمل واحد، أو اقتطاف محدد من أعمال عدة، لم تفارقها، إذ غرفت منها أو نهلت، فتكرر ما كُتب تحت كل مصطلح، من قاموس إلى آخر، دون أن يُعنى كثيرون بالإفاضة والإضافة. فهم لم يبذلوا الجهد المطلوب فى شرح الغامض والملتبس، ولم يكتبوا شيئًا كثيرًا يُذكر، ينضم إلى ما تركه الأقدمون.
لقد أبدع القدماء من المتصوفة بتأملاتهم العميقة قاموسًا مختلفًا للروح، من يطلع عليه يجده حافلًا بالأسرار، يتقدم فيه الرمز على المعنى المباشر، وتعلو الإشارة فوق العبارة، ويُخاطب الوجدان أكثر مما يُخاطب العقل، ويُعبر فى مجمله عن رغبة أصحابه فى الوصول إلى الحقيقة، عبر المجاهدة التى قد تجود بالإشراقات المبهرة، ويأتى معها النور والعجائب، أو نصرة الحق، عبر تحرى المسار المؤدى إليه، دون التواء، ولا مواربة، ولا تردد، وتكون الحقيقة ومعها الحق يسعيان إلى بلوغ المعنى الأسمى والأسنى للوجود.
وجاء اللاحقون ليسجلوا كل هذا تسجيلًا أمينًا، فى الغالب الأعم. وهذا لا يمثل عيبًا فى حد ذاته، فواضعو تلك القواميس كانوا باحثين فى التصوف، وليسوا متصوفة جددًا، أو معنيين بإنتاج تأملات مختلفة، أو إبداع طريقة تقرب المصطلح من أفهام الناس فى زماننا، ولهم فى كل هذا فضل استخلاص المفاهيم وتصنيفها وترتيبها وتقديمها للقارئ فى كتب.
لكن هذه المعاجم نقل بعضها من بعض، نقلًا واضح الإفراط فيه، وإذا كان بعض أصحابها قد بذلوا جهدًا فى الشرح اللغوى أو تأصيل المفهوم من كتب كبار المتصوفة، فإنهم لم يجلوا غامضًا، ولم يشرحوا مستغلقًا على الأفهام، والأهم من كل هذا يبدو ما أوردوه فى معاجمهم، غير مستنبت أو مستخلص من تذوقهم هم، إنما هو تذوق آخرين من أقطاب التصوف، لم يدع أى منهم أن ما تركه هو نص مغلق، غير قابل للأخذ والرد، والإضافة والحذف، أو إبداع جديد، سواء عبر وضع مصطلحات أخرى، أو تذوق المصطلحات السابقة بمشرب خاص.
لقد اجتهد العلماء المختصون بدراسة التصوف فى تأليف معاجم تحوى مصطلحاته ومفرداته الأساسية، قالوا إنهم يقدمون فيها تفسيرًا لهذه المصطلحات، لكنها فى الحقيقة لم تضف كثيرًا، ولم تنجح نجاحًا ملموسًا فى فك شفرات هذه المفردات، أو إنهاء ألغازها، فبدت بعيدة كل البعد عن متناول قارئ عادى يريد ألا يقف عند شاطئ التصوف، بل يبحر فيه ولو قليلًا.
ولأن الأمر كذلك، فقد أصدرت قبل أسابيع عن «الدار المصرية اللبنانية» بالقاهرة كتابًا بعنوان «قاموس الروح» حاولت فيه الاقتراب من الأسرار الكبرى للتصوف، التى أنتجت الكثير من الاصطلاحات، فأتذوقها وأتأملها، وأنغمس فيها انعماسًا عميقًا، وعلى قدر الاستطاعة؛ ولذا فإن كانت المفردات الواردة هنا متداولة فى كتب المتصوفة، فإننى اعتمدت على ما أنعم به الله علىّ، فهو سبحانه صاحب العلم المطلق، فانعكس على تذوقى وتفكيرى الخاص، وتأملى الذاتى، فى المعانى والمفاهيم والمصطلحات التى نطق بها المتصوفة، لأخفف الغموض التى يلتبس بعضها من خلال أربع سبل هى: السرد والحوار وحضور الصورة وانسياب اللغة أو تدفق التعبير.
إن هذا الكتاب تجربة خاصة على ضفاف التصوف، حتى وإن جاء من يرى أنها تقع فى قلبه، فالتصوف بحر لا شطآن له، ومهما سبحنا فيه، فلن نبلغ شاطئه الآخر، حتى وإن امتلكنا غاية المهارة فى السباحة، وغاية المعرفة بأحوال البحر وشؤونه وشجونه.
إنها محاولة قد تضاف إلى تلك التى تركها لنا السابقون، ومن حقنا أن نحاول كما حاولوا، وأن نكون مثلهم حين أدركوا أنهم مهما بلغوا من الإفهام والإحكام، فإن كل هذا كان مجرد تجارب ذاتية، لا تغلق الباب أبدًا أمام الآخرين ليجربوا، لعلهم يفلحون فى إضافة مدماك جديد فى بناء التصوف الإسلامى السامق، الذى توالت عليه النوائب والعواصف والتدابير المغايرة، التى أرادت له أن ينقض، لكنه بقى صامدًا فى وجه الزمن.
فى هذا القاموس، نبحر دون بلوغ أى شاطئ، ونحن نتذوق الأحوال والمقامات والمراتب والفضائل والقيم والوسائل والمعانى، ونسبر أغوار الزمان والمكان على قدر التذوق والاجتهاد والجهد، فتظهر لنا مفردات إن كان لها تعريف فى قواميس اللغة، أو معاجم العلوم الإنسانية، أيًّا كانت، فإنها تأخذ مع التصوف، ولدى المتصوفة، معانى أخرى، فريدة فى نوعها، متفردة فى تركيبها.
ولم أشأ أن آتى فى كتابى هذا على كل مصطلحات التصوف ومفرداته، إنما اخترت منها ما يدرج تحت العنوان الذى اتخذه الكتاب وهو «قاموس الروح»، فعكفت على تذوق كل ما يمس الروح من كلمات صوفية راسخة، ورتبتها أبجديًّا، من الألف إلى الياء، محاولًا تقريبها إلى الأذهان ـ كما قلت ـ سواء من خلال السرد أو الحوار، وكل منهما سبيل عفية لتحقيق مثل هذا الغرض الضرورى.
يقوم «قاموس الروح» على تأمل كل مفردة، ثم إقامة حوار حولها بين شيخ ومريد متخيلين، هو كتاب مختلف عن كل كتبى السابقة، سواء فى التصوف أو غيره، كما سنرى ونعرف، حين نقرؤه، أو بمعنى أدق، حين نشارك كاتبه التذوق أو التأمل، أو محاولة الاقتراب.