توقيت القاهرة المحلي 23:40:01 آخر تحديث
  مصر اليوم -

رواية عن «دولة المخبرين» (2-2)

  مصر اليوم -

رواية عن «دولة المخبرين» 22

بقلم / عمار علي حسن

ويعيش بطل رواية «البصاص» للكاتب مصطفى عبيد، صراعاً نفسياً محتدماً، فهو يؤكد فى الليل لصديقه أن كل الشخصيات التاريخية التى تُضرب بها الأمثال فى الشجاعة والعدل والحكمة مثل صلاح الدين الأيوبى وأبوجعفر المنصور ومحمد على باشا لم تكن فى حقيقتها بهذه النصاعة، بل كانت لهم مساوئ ومثالب لا تحصى، تجعل ما يشاع عنهم الآن من إيجابيات محض أساطير. أما فى النهار فيتعاون مع أمثالهم من المعاصرين، فيكتب التقارير الأمنية فى زملائه وتلاميذه، لاسيما ممن ينتمون إلى التيار الدينى السياسى، وكذلك صديق عمره الشيوعى، بل إنه يبلغ عن حبيبته، الصحفية، حين فكرت فى أن توثق شهادات التعذيب فى السجون وأقسام الشرطة، ثم يوشى بأستاذه، الذى يشرف على أطروحته، وهو رجل نزيه مخلص لوطنه، فيعرضه لضغوط شديدة، تصيبه بجلطة، تفقده الحركة والنطق، فتنقطع بذا صلته بتلاميذه.

و«كرم» هنا قد سار على خطى والده، الذى كان بصاصاً قديماً، سلم وثيقة العسس الأصلية إلى جهاز أمن الدولة مقابل تعيين ابنه معيداً بقسم التاريخ فى كلية الآداب. وكأن الكاتب أراد أن يقول لنا إن مهنة العسس تنتقل من جيل إلى جيل، محافظة على آلياتها، ووظائفها.

ورغم أن البطل يعمل بصاصاً فإنه يمضى خائفاً من البصاصين، ظاناً أن كل الناس مثله، وتقبض هذه الهواجس على نفسه، وتطارده كظله، فتتحول الرواية إلى كابوس طويل، وفصول متتالية من التعاسة، تصم الجميع، الأبطال على اختلاف أدوارهم، والراوى المتأرجح بين الماضى والحاضر، لنجد أنفسنا أمام عمل كفكاوى إلى حد ما، لا يقف عند حد اكتئاب فرد، مهما بلغت درجة وعيه وقدرته على التحايل والإفلات من المآزق، إنما كآبة مجتمع بأسره، يعيش فى خوف وتفسخ وفساد وصراع على الفتات، حتى فى أشد مؤسساته تحديثاً، وهى الجامعة.

ولعل العبارة التى جاءت على لسان أحد أبطال الرواية تلخص هذه الحالة بقسوة، إذ يتوجه إلى الناس ويدينهم فيقول بطريقة خطابية ظاهرة: «العلم خارج اهتمامكم أيها الشكاءون بلا نهاية. يا شعوباً من كلام لِمَ تستخفون بجلسات البحث العلمى وتحتشدون أمام مباريات الكُرة وحفلات الرقص الشرقى؟ يا أناساً من ضجيج لِمَ تتجاهلون عواصف التفكير وتنشغلون بالسواك والجلابيب القصيرة وعذاب القبر وعلامات الساعة؟ يا بشراً ينام نصف العُمر وينافق أبد الدهر لِمَ تتغيبون عن حفل ميلاد قامة فكرية فى سماء بلادكم؟».

ولدى الكاتب قدرة ظاهرة على صناعة التشويق، لم ينل منه عمق الطرح، ولا الانتقال من زمن إلى زمن، ومن أسلوب إلى آخر، ولا تشابك خيوط الأحداث. ويجرى كل هذا بلغة فياضة ومحكمة فى آن، إذ لا نجد ترهلاً، إنما ذهاب إلى المعنى من أقرب طريق.

ورغم أن الرواية تتوسل بالتاريخ، وتعود إليه لتنهل منه طيلة الوقت متكئة على مراجع ومصادر فى مطلعها كتاب «عجائب الآثار فى التراجم والأخبار لعبدالرحمن الجبرتى»، فإنها تغرف أيضاً من الواقع المعيش، فأجواء التلصص والتتبع لا تخطئها عين، وكتبة التقارير عن بعضهم البعض -أو حتى عن أنفسهم- يتكاثرون كالأميبا، وطغيان الأمن على الحرية صار خطاباً سائداً منذ عقود، لاسيما مع العودة الدائمة إلى نظرية المؤامرة المسكون بها كتابات تاريخية عربية عدة.

ومع أن السياق السياسى حاضر بشدة فإن الكاتب تمكن إلى حد بعيد من أن ينأى بنصه عن المباشرة أو الوقوع فى فخ الانحياز الأيديولوجى الفاضح والواضح، حتى إنه لا يأخذ موقف الإدانة لـ«البصاص» بقدر ما يعريه أمامنا، فنرى سوءاته كلها، وندرك فداحة ما ينالنا منه، دون أن نفقد الأمل فى إمكانية استعادته إلى السوية، لنربح «المجتمع السليم» حسب تعبير عالم النفس الأمريكى إريك فروم، أو حتى الذى نطيق أن نعيش فيه.

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

رواية عن «دولة المخبرين» 22 رواية عن «دولة المخبرين» 22



GMT 19:45 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

‫تكريم مصطفى الفقى‬

GMT 09:09 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

صوت الذهب... وعقود الأدب

GMT 09:05 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

أولويات ترمب الخارجية تتقدّمها القضية الفلسطينية!

GMT 09:04 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

التسمم بالرصاص وانخفاض ذكاء الطفل

GMT 09:03 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

عن تكريم الأستاذ الغُنيم خواطر أخرى

GMT 09:02 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الجائزة الكبرى المأمولة

GMT 09:00 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

تنظيم «الإخوان» ومعادلة «الحرية أو الطوفان»

GMT 08:54 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

لأميركا وجهان... وهذا وجهها المضيء

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 09:22 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية
  مصر اليوم - قرية بورميو الإيطالية المكان المثالي للرياضات الشتوية

GMT 09:31 2024 الخميس ,21 تشرين الثاني / نوفمبر

الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة
  مصر اليوم - الزرع الصناعي يضيف قيمة لديكور المنزل دون عناية مستمرة

GMT 07:44 2024 الإثنين ,11 تشرين الثاني / نوفمبر

البنك المركزي المصري يعلن تراجع معدل التضخم السنوي

GMT 22:26 2018 السبت ,20 كانون الثاني / يناير

مبيعات Xbox One X تتجاوز 80 ألف فى أول أسبوع

GMT 14:26 2016 الجمعة ,16 كانون الأول / ديسمبر

أبطال " السبع بنات " ينتهون من تصوير أدوارهم في المسلسل

GMT 18:22 2017 الخميس ,23 تشرين الثاني / نوفمبر

الكشف عن "هوندا سبورت فيجن GT" الجديدة بتصميم مثير

GMT 05:34 2016 الثلاثاء ,27 كانون الأول / ديسمبر

إيفانكا ترامب تحتفل بعيد الميلاد في هاواي

GMT 09:27 2024 الخميس ,09 أيار / مايو

أهم صيحات فساتين السهرة المثالية
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon