لم تلقَ الاتفاقيات التى أبرمتها الدول فى مجال الحفاظ على البيئة تطبيقًا كاملًا، بل تشهد انتهاكًا لبنودها، خاصة من الدول الكبرى. مع هذا، فإن النضال مستمر فى سبيل تنفيذ كل ما حوَتْه لنفع البشرية جمعاء، وتعزيز الجانب الإنسانى فى علاقات الدول.
ودفع الدول الكبرى إلى أن تلتفت إلى توجيه جزء من ميزانياتها الضخمة إلى البيئة، ودرء الكوارث، وإدارة الأزمات التى ينتجها «غضب الطبيعة»، ومساعدة البشر على التغلب على الأخطار التى تحدق بهم، ومنها الأمراض الخطرة، بدءًا من «سارس» (الالتهاب الرئوى الحاد اللانمطى)، فى آسيا إلى «جنوب البقر» فى أوروبا، إلى «الإيدز» و«السرطان» فى كل أنحاء العالم.
2- تسييس الطبيعة: ما من شك فى أن حياتنا صارت مُسيَّسة بشكل أو بآخر، فقد أصبحت السياسة متداخلة مع الكثير من سلوكنا وعاداتنا اليومية، وامتدت ذراعها، فطوّقت كل ما كنا نعتقد فى الماضى أنه بعيد عنها كل البعد.
وعملية تسييس الظواهر الاجتماعية كانت هى الآلية التى ميزت علم السياسة فى القرن العشرين عن القرون التى خلت، فقديمًا كان هناك فرق واضح بين السياسى والأخلاقى، فالإجهاض، مثلًا، كان فى القرن التاسع عشر مسألة أخلاقية، وكان وضع الأسرة ومسائل الصحة والتربية بعيدة عن اهتمامات السياسة، باسم احترام الحياة الخاصة.
أما فى القرن العشرين، فتم توسيع ميدان السياسة ليشمل كل المسائل السابق ذكرها، وامتدت شبكة التفسير السياسى إلى كافة النشاطات الإنسانية، بل وصلت إلى الظواهر الطبيعية، فعدم هطول المطر أو وقوع الزلازل يبدو لأول وهلة أمرًا بعيدًا عن السياسة، لكن إعادة النظر فى هذه المسألة ستقود إلى نتيجة مفادها أن السياسة تقع فى قلب هذه الظاهرة الطبيعية.
فبعض الناس يعتقدون أن هذه الكوارث نجمت عن غضب الله سبحانه وتعالى على الحكام لظلمهم وفسادهم، وفى كل الأحوال فإنهم سيلجأون إلى السلطة لتنقذهم مما حل بهم من خسائر، وعليها أن تستجيب، فى هذه الأوقات الحرجة، حفاظًا على الشرعية وضمانًا للاستقرار السياسى.
فى ظل هذا الفضاء العام لتسييس الظواهر، تأتى قضايا البيئة لتلقى بنفسها فى غمار العملية السياسية فى بُعديها المحلى والدولى، فهذه القضايا برزت فى نهاية القرن العشرين إلى واجهة الاهتمامات السياسية العالمية، فهى حتى فى جانبها التقنى تستدعى استجابات سياسية. وجاء رد الفعل السياسى على ما فرضته البيئة من قضايا فى شكل استحداث أنظمة ومؤسسات للتحكم فى البيئة، وإبرام اتفاقيات عالمية بشأنها، وقيام أنماط عدة من التفاعلات الدولية حولها.
3- إنتاج فاعلين دوليين جدد: فنظرية العلاقات الدولية التقليدية كانت تنظر إلى الدولة على أنها الفاعل الرئيسى فى النظام الدولى، لكن التاريخ الحديث والمعاصر شهد ميلاد «فاعلين دوليين» آخرين. وكانت لقضية البيئة نصيب فى هذا المضمار، فخلال عقدى السبعينيات والثمانينيات من القرن المنصرم، وُلدت ونمَت حركات «الخضر» والعديد من المنظمات البيئية والصناعية غير الحكومية، وراحت تمارس دورًا عالميًّا فى سبيل الحفاظ على البيئة، جنبًا إلى جنب مع الدول.
وقد تمكنت هذه المنظمات من إيجاد حالة من المعارضة ضد صيد الحيتان، وامتد نشاطها إلى مقاومة التلوث الإشعاعى والنفطى، وإلى قضايا «المشاعات العالمية»، وأصبح بعضها، مثل «الصندوق العالمى للحياة البرية» و«المعهد الدولى للبيئة والتنمية»، يقدم النصح للحكومات، بشكل دورى.
وتمكن بعضها من الحصول على صفة مراقب فى مؤتمرات الأمم المتحدة حول البيئة، بل إن بعضها يحضر ضمن الوفود الوطنية الممثلة فى هذه المؤتمرات. وهذا الحضور الفعال جعل هذه المنظمات تتحدث، شأنها فى ذلك شأن منظمات نظيرة تهتم بقضايا أخرى، عن «المجتمع المدنى العالمى».
4- إذكاء جدل «السيادة» و«العولمة»: فما فرضته العولمة قسرًا أو بالتراضى نال كثيرًا من المفهوم التقليدى لسيادة الدول، إذ لم يعد بمقدور الأخيرة أن تدّعى أن لها حدودًا بوسعها أن تمنع تدفق السلع والمعلومات، وأن بإمكانها رفض مطالب مؤسسات «المجتمع المدنى العالمى»، خاصة تلك المهتمة بحقوق الإنسان والتبشير بالقيم الديمقراطية.
ولم يعد بمقدور أى حكومة أن تعزل البلد الذى تقوده عن العالم، أو تُجرم أى مواطن يتصل بالهيئات الدولية المختصة، أو حتى وسائل الإعلام الخارجية، ليشكو إليها ظلمًا وقع عليه، أو يناشدها أن تساعده فى دفع ضرر طاله، ولم تُمكنه الظروف القائمة والإجراءات المتبعة فى بلاده من أن يدفعه، أو يرفعه عن كاهله. ويزداد هذا التصور رسوخًا حال تأسُّسه على الأفكار التى ساقها ميرفن فروست، عالِم العلاقات الدولية، من أن هناك فرقًا بين «الحقوق المدنية» و«حقوق المواطنة»، معتبرًا أن «الفرد يكون مواطنًا فى المجتمع الوطنى المتمتع بالسيادة، وهو فى الوقت نفسه مدنى فى المجتمع العالمى.
ومن هنا يكون له نوعان من الحقوق، الأول بوصفه مواطنًا محليًّا، والثانى لكونه فردًا عالميًّا، فإذا أضَرّت حكومته الوطنية بحقوقه العالمية بات من حق المجتمع الدولى أن يتدخل لحمايته»، خاصة أن سيادة أى دولة، حسبما ذهب إليه الفيلسوف الفرنسى جان جاك روسو، هى مجموع سيادة الأفراد الذين يكونون هذه الدولة، وليست سيادة السلطة فقط، حسبما تذهب أنظمة كثيرة فى العالم الثالث، تجور على حقوق مواطنيها بدعوى التمسك بالسيادة الوطنية.
وجاءت قضايا الكوارث البيئية لتضيف زخمًا جديدًا إلى الجدل الدائر حول حدود سيادة الدولة فى ظل تجبر العولمة، فالمشكلات البيئية التى تتخطى الحدود تفرض تحديات الأفكار السائدة حول سيادة الدولة، ولاسيما أن هذه المشكلات نادرًا ما تنتجها سياسات وطنية متعمدة، بل هى فى الأساس تنجم عن تأثيرات جانبية غير مقصودة لعمليات اقتصادية- اجتماعية أوسع نطاقًا.
ومع ذلك، فإن البيئة أخف وطأة على سيادة الدولة من قضايا «حقوق الإنسان» و«المواطنة»، فالاستجابات حيال ما على البشرية فعله من أجل بيئة نظيفة وطبيعية أدت فى بعض الأحيان إلى توسيع نطاق سلطة الدولة، وتعزيز مشاركتها المجتمع الدولى برمته هذه الهموم. وهنا تلعب الدولة دومًا دور الطرف القانونى فى أى معاهدات دولية حول البيئة، منطلقة فى كثير من الأحيان من تصورها لما يقع فى نطاق سيادتها، وما يجب عليها تقديمه من تنازلات لمقتضيات العولمة.
(ونُكمل الأسبوع المقبل إن شاء الله تعالى).