لم يُعنَ كثيرون بتجلية معنى الصمود وسبر أغواره، ولم يأخذ هذا المصطلح حظه من الشرح والتفسير والإحاطة التى حظيت بها مصطلحات أخرى مرتبطة بالصراع الفلسطينى- الإسرائيلى، رغم أن الصمود يشكل قيمة مركزية ومسلكًا رئيسيًّا فى هذا الصراع، بل تحوّل الصمود إلى شعار عريض آمن به كثيرون، وتعالت أصواتهم به قائلة: «صامدون هنا».
والصمود هو حالة نفسية وذهنية وجسدية تساعد الفرد والجماعة على تحمل أقصى درجات الألم، عبر امتصاصه وتفريغه من مضمونه وتجريده من كل أداة يضغط بها على النفس والعقل والجسم، وحرمان مستعمليه من تحقيق الغايات والأهداف التى يرومونها من إيلام الآخرين والتنكيل بهم، ماديًّا ومعنويًّا.
ويبلغ الصمود حده الأقصى والأنجع حين يتمكن الصامدون من حمل العدو على الشعور بأنه يخسر مع استمرار القتال، مما يجعله يفكر جديًّا فى إيقافه، وجعله أيضًا يشعر بأن المقاومة لم تتأثر من ضرباته إلى الحد الذى يجعلها قريبة من الانهيار والاستسلام، وكذلك حين يتمكن الصامدون من تعزيز قوى الضغط على العدو فى داخل أرضه وفى المحيط الإقليمى والدولى الذى يعنى بالمعركة أو يراقبها ويتابعها، والنجاح فى جلب تعاطف متصاعد مع المقاومة، كلما مرت الأيام وهى صامدة مستبسلة فى ميدان القتال، ثم تحسن الوضع الميدانى معها بما يجعلها تشعر أنها على أبواب النصر.
وللصمود مظاهره وتجلياته التى لا تخفى على المتابعين والدارسين، منها القدرة على الصد حتى آخر لحظة فى المعركة، وحرمان العدو أو الخصم من تحقيق كل أهدافه التى حددها لنفسه قبل خوض القتال، وكذلك القدرة على الحفاظ على تماسك المجتمع واستمراره مهما كان العدوان مفرطًا فى استعمال القوة والبطش، وإمكانية إعادة ترميم وتعمير ما خرّبه العدوان، واستعادة القدرات العسكرية التى تم تدميرها أثناء المعركة، والقدرة على إدارة صراعات حادة تنطوى على التعرض لضغوط قاسية، ويمكن لبعضها أن يطول، ويستهدف فيه العدو اقتلاع أهل البلد الأصليين من أرضهم وتشتيتهم خارج وطنهم، أو إذلالهم معنويًّا إلى حد إجبارهم على الهروب والرحيل، ثم تصوير الأمر للعالم على أنه اختيار حر لهؤلاء.
وهناك شروط ضرورية يجب توافرها أو على الأقل توافر أغلبها كى يتحقق الصمود، ويمكن ذكرها على النحو التالى:
1- بناء تكتيكات متماسكة تعمل على توزيع طاقة المقاتلين وجهدهم على أيام المواجهة، بما يُمكِّنهم من سد أى ثغرة ينجح العدو فى إحداثها خلال سريان المعركة، أو سعيه إلى الإنهاك الجسدى والنفسى للمقاتلين.
2- توافر القدرات القتالية، من ذخيرة حية وتدريب رفيع المستوى يكافئ كل معركة حسب حجمها ونوعها وطورها، وإقامة تجهيزات عسكرية مناسبة، وتوفير دعم لوجستى مستمر على مدار أيام المواجهة المسلحة.
3- حيازة القيم التى ينطوى عليها الصمود، مثل الصبر على المكاره، والعناد الإيجابى الذى يقوم على التماسك النفسى، والثقة فى الله سبحانه وتعالى وأنه ينصر مَن ينصره بالانحياز إلى الحق والعدل والحرية والخير، والإيمان بالذات، والشعور الجارف بأهمية التضامن مع الآخرين، وامتلاء الجوانح بالانتماء إلى كل ما يحقق وجود الإنسان ويصون كرامته، كالعقيدة والأرض والعِرض والأهل والمعانى النبيلة.
4- امتلاك القدرة على توظيف كل المجالات المتاحة لتعزيز المقاومة، مدنية كانت أم مسلحة، مثل: الإعلام، المكتوب والمسموع والمرئى والمتعدد، بما يؤهل الصامدين لإنتاج خطاب يساعد على إقناع مَن هم على الحياد بعدالة قضية المقاومة وسموها، ومن ثَمَّ جذبهم إلى الوقوف إلى جانبها ومساندتها بالقول أو الفعل أو بكليهما، ثم توظيف الأدوات الدبلوماسية المتعارف عليها لتحقيق النصرة السياسية للمقاومين عبر التعريف بها فى كل المحافل الدولية، وإدارة تفاوض ناجح مع العدو حين يحين وقت ذلك، بما لا يجعل المقاومة الصامدة تخسر بالسياسة ما لم تخسره بالسلاح، أو تفرط على الطاولات الباردة فيما لم تفرط فيه فى الميادين الملتهبة.
5- وجود يقين لدى الصامدين بأن الأضرار الناجمة عن التهاوِى أو الاستسلام أشد وطأة وأفدح أثرًا من تقديم التضحيات، مهما بلغت جسامتها وضخامتها. ويمكن هنا أن يراجع الصامدون تاريخ جماعات المقاومة فى مشارق الأرض ومغاربها، ليقفوا على الأضرار التى ترتبت على التهاوِى والرضوخ بعد صمود قصير، والعار الذى لحق بالمقاومين والمجاهدين، الذين فرّطوا فيما حصدوه من صمودهم وثباتهم.
6- عدم انتظار الصامد مكافأة خارجية على صموده، بل التصرف على أساس الإيمان بأهمية الصمود والاقتناع بالذات الصامدة، فمَن ينتظر فائدة أو منفعة دنيوية، مادية أو معنوية، على ثباته، سيتهاوى ويُهزم على الأرجح إن تأخرت هذه المنفعة، أو تأكد من أنها لن تأتى أبدًا، أو ستأتى أقل من المتوقع.
7- امتلاك الفرد إرادة واعية تُمكِّنه من تحويل التهيئة الذهنية والنفسية للصمود إلى سلوك عملى مستمر فى مقاومة الاحتلال يتجاوز بكثير مجرد الشجاعة العفوية أو الطارئة، التى يمكن أن يمتلكها الفرد فى لحظة استثنائية من حياته، ثم لا تلبث أن تتبخر، والتى هى أمر عارض فى حياة الأفراد والجماعات، لا يُعوَّل عليها، ولا تُبنى عليها استراتيجيات، أو تُعقد آمال.
8- إيمان الإنسان بأنه يمتلك طاقة غير محدودة تُعينه على تحمل الألم وتجاوزه، وتجعله موقنًا بأن عدوه أو خصمه سيفشل فى كل الأحوال، وتُمكِّنه من حيازة قدرة كبيرة على تحويل كل نقاط الضعف إلى مواطن قوة.